بدأتُ في شهر يوليو/تموز الماضي مشروعا صغيرا لاستكشاف اتجاهات اقتصاد المشروعات الناشئة (Startups) في إسرائيل، بالنظر لأهميته الكبيرة كنقطة جذب للاستثمارات الخارجية، وكمصنع للأفكار والابتكارات الجديدة التي يجري توظيفها في مختلف المناحي المدنية والعسكرية في إسرائيل والعالم.
ولقد اكتسب قطاع التقنية العالية في إسرائيل، والمشروعات الناشئة في القلب منه، أهمية مضاعفة في العقدين الأخيرين، وذلك بسبب تحوله لقاطرة النمو الاقتصادي في الدولة العبرية، رغم أنه ظل، بحكم طبيعته، حيزا نخبويا إلى حد بعيد. فقطاع التقنية العالية يسهم بحوالي خمس الناتج المحلي الإسرائيلي، إلا أنه لا يوظف فعليا أكثر من 10-12% من قوة العمل، وهو ما يجعل منه ناديا شبه مغلق للنخب الأشكنازية، القادمة غالبا من الوحدات الخاصة والتقنية في الجيش، ومن المدارس التقنية والعلمية المرموقة.
وبسبب طبيعته هذه، فهو يعد القطاع الإسرائيلي الأكثر اندماجا في النظام المعولم على صعيد أسواق المال والعلاقات والشراكات، ومن هنا فإنه يمثل مرآة لاتجاهات التقنية الحديثة وحركة الابتكارات على المستوى العالمي.
ويمكن القول إن العقد الأخير شهد نضوج اقتصاد المشروعات الناشئة في إسرائيل، بدليل تزايد الشركات الإسرائيلية الناشئة التي تحولت إلى شركات مليارية (وتسمى “اليونيكورن”)، وتصاعد عمليات الاستحواذ من قبل شركات وصناديق استثمار عالمية على شركات إسرائيلية.
وعلى سبيل المثال، لا الحصر، شهد العام 2024 أكبر صفقتي استحواذ في تاريخ الدولة العبرية، حيث استحوذت شركة “غوغل” على شركة “Wiz” المتخصصة في أمن السحابة مقابل 32 مليار دولار، بينما استحوذت شركة “بالو ألتو”، أكبر شركات الأمن السيبراني في العالم من حيث القيمة السوقية، على شركة “CyberArk” مقابل 25 مليار دولار.
سأنشر في نهاية كل شهر تقريرا موجزا عن حالة اقتصاد المشروعات الناشئة في إسرائيل، بما يغطي قيمة الاستثمارات التي استقطبها شهريا، وعدد الجولات التمويلية التي جرى من خلالها استقطاب هذه الاستثمارات، بالإضافة إلى أبرز القطاعات التي تركز فيها التمويل وعمليات الاندماج والاستحواذ. وأظن أن هذه المعطيات، على تواضعها، قد تلقي جانبا من الضوء على حركة الاقتصاد الإسرائيلي من بوابة واحد من أكثر قطاعاته حيوية وارتباطا بحركة الاقتصاد العالمي. تقرير شهر أغسطس/آب من هُنا، وتقرير شهر سبتمبر/أيلول من هُنا، وتقرير شهر تشرين أول/أكتوبر من هُنا.
خدمة الاستشارات الاقتصادية
هذا التقرير يُمثّل جانبا من خدمة أوسع أقدّمها في مجال الاستشارات الاقتصاديّة. نطاق العمل لا يقتصر على أسواق رأس المال والشركات الناشئة، بل يشمل قراءة التفاعلات الأوسع بين الاقتصاد والسياسة والتقنيّة، ورسم اتجاهات يمكن الاعتماد عليها من قبل مراكز البحث والمؤسسات الدولية وصنّاع القرار في المنطقة. إذا كنتم بحاجة للمساعدة في إعداد مواد اقتصادية أو سياسية عالية الجودة ومدعمة بالبيانات أو بحاجة لتقارير معمّقة في مجالات أو قضايا مُحدّدة، بإمكانكم التواصل معي من هُنا.
شهدت بيئة الشركات الناشئة في إسرائيل خلال شهر تشرين ثاني/نوفمبر 2025 طفرة تمويليّة كبيرة، حيث استقطبت استثمارات بحوالى 1.34 مليار دولار توزّعت على 27 جولة تمويلية، مقارنة بـ 610.7 ملايين دولار فقط خلال شهر تشرين أول/أكتوبر تحققت عبر 25 جولة تمويلية. هذا الارتفاع يعكس انتقال السوق إلى مرحلة بات فيها الذكاء الاصطناعي — خصوصا في الأمن السيبراني والبنية التحتية الحوسبية — المحرك الرئيسي للتمويلات، مع إقبال واضح من قبل المستثمرين على الشركات التي تطوّر منصات قادرة على العمل كـ«طبقات تشغيلية» للمؤسسات وليست مجرد أدوات مساندة. ويظهر هذا الشهر تحوّلا في المزاج الاستثماري نحو الأنظمة المستقلة (Autonomous Systems) وقدرات الأتمتة الشاملة التي تتعامل مع المهام المؤسسية الحساسة من أمن، وعمليات، وتحليلات، دون تدخل بشري مباشر.
- الأمن السيبراني (Cybersecurity) تصدّر هذا القطاع التمويل الشهري بوضوح، إذ استقطب استثمارات بلغت قيمتها الإجمالية حوالى 1,013 مليون دولار، توزّعت على 13 جولة، ما يعكس الدور المركزي الذي بات يلعبه الأمن المعزَّز بالذكاء الاصطناعي في بيئات العمل الحديثة. الاتجاه الواضح هذا الشهر كان نحو بناء أنظمة دفاعية «تعمل من تلقاء نفسها»، إذ لم تعد فرق الأمن تبحث فقط عن أدوات رصد وإشعارات، بل عن منصات قادرة على التحليل والتحقيق والرد بشكل شبه كامل دون تدخل بشري. هذا يشمل أنظمة تمنح صلاحيات مؤقتة بدلا من الامتيازات الدائمة (Zero Standing Privilege)، ومحركات (Simulating Attacker Behavior) عبر وكلاء أذكياء لإجراء اختبارات الاختراق بشكل مستمر، ومنصات (Incident Response) مؤتمتة قادرة على ربط الأدلة وتنسيق الاستجابة عبر مختلف الأنظمة. كما برز تطور مهم في حماية الأنظمة السحابية من خلال منصات تتنبأ بالمخاطر قبل حدوثها عبر نمذجة التغييرات التشغيلية المحتملة وتحليلها لحظياً (Preventive Cloud Defense). مجمل هذه التطورات يعكس انتقال الأمن السيبراني من كونه «وظيفة تشغيلية» إلى «نظام عصبي» يراقب المؤسسة ويستجيب للتهديدات السيبرانية في الزمن الحقيقي.
- الذكاء الاصطناعي التطبيقي والأنظمة الذكية (Applied AI & Intelligent Systems) حلّ في المرتبة الثانية، مستقطبا تمويلات بقيمة 131 مليون دولار توزعت على ثلاث جولات، مع تركيز شديد على بناء وكلاء ذكاء اصطناعي قادرين على تنفيذ مهام معقدة بالنيابة عن الموظفين. الاتجاهات هذا الشهر تركزت على وكلاء يعملون كنقاط تواصل أولية مع العملاء عبر الهاتف أو الدردشة ويحوّلون الحوارات إلى بيانات جاهزة للتنفيذ، إضافة إلى أنظمة هجينة تجمع بين الذكاء التوليدي والمنطق الصريح (Symbolic Reasoning) لتحسين الدقة في المهام الحساسة. اللافت هنا هو التحول من استخدام الذكاء الاصطناعي كأداة مساعدة داخل سير العمل إلى اعتباره «عاملا افتراضيا» (AI Worker) يتقن مهاما محددة بعمق ويؤديها باستقلالية متزايدة داخل الفرق التشغيلية.
- البنية التحتية للذكاء الاصطناعي والحوسبة المتقدمة (AI Infrastructure & Compute) بلغت قيمة التمويل في هذا القطاع 107 مليون دولار توزّعت على جولتين. عكست هذه الجولات تعاظم الوعي بأن القيود الحوسبية — وليس جودة النماذج فقط — أصبحت العائق الأكبر أمام توسع الذكاء الاصطناعي. التطورات الرئيسية هذا الشهر تركزت على محاولات كسر ما يُعرف بـ«جدار الذاكرة» (Memory Wall) من خلال بنى خوادم تجمع بين قدرات معالجة عالية وسعات ذاكرة غير مسبوقة، بما يسمح للنماذج بالعمل بكفاءة دون الحاجة لتقسيم البيانات أو إدارتها خارجيا. كذلك برزت تقنيات جديدة لتسريع خطوط البيانات (Data Pipelines Acceleration) عبر محركات تحقق أداء يقارب الأجهزة المتخصصة دون تعديل جوهري للبنية الحالية. هذه الاتجاهات تشير إلى بداية تشكّل طبقة عتادية وبرمجية جديدة مخصّصة بالكامل لتشغيل الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع.
- العقارات والتقنيات السلوكية (PropTech) حلّ في المرتبة الرابعة باستثمارات بلغت قيمتها 69 مليون دولار توزّعت على جولتين تمويليتين، حيث برزت منصات تحول المباني إلى أنظمة تشغيلية ذات وعي سياقي (Context-Aware Buildings) تتفاعل مع سلوك السكان وأنماط الاستخدام اليومية. تعتمد هذه المنصات على تحليلات لحظية لإدارة الصيانة، تنظيم حركة الأجهزة المشتركة، ومراقبة جودة الإقامة، إضافة إلى أدوات تربط المبنى بالخدمات التجارية والمالية المحيطة. الاتجاه العام يوضح انتقال قطاع العقارات من التركيز على «التشغيل اليدوي» إلى بيئة تعتمد الذكاء الاصطناعي في اتخاذ قرارات تشغيلية مباشرة.
- التقنية المالية (Fintech) شهد هذا القطاع جولة تمويل واحدة بقيمة 35 مليون دولار، وتركزت على أتمتة معالجة النزاعات المالية (Chargeback Automation)، وهي من أكثر العمليات تكلفة في قطاع المدفوعات. التقنيات الجديدة تعالج هذا التحدي عبر محركات تجمع البيانات من مصادر مختلفة لبناء «ملفات أدلة» جاهزة للبنوك، مع استخدام نماذج تتعرف على أنواع الاحتيال — بما في ذلك الـ “Friendly Fraud” — وتتعامل معها بشكل وقائي. يوضح هذا التوجه مسارًا جديدًا في التكنولوجيا المالية، حيث تنتقل الأنظمة من تقديم أدوات تحليل إلى تولي إدارة العملية التشغيلية برمتها.
- الحوسبة الكمومية البرمجية (Quantum Software) شهد القطاع جولة واحدة بقيمة 30 مليون دولار لتمويل بناء بيئة تطوير برمجية (Quantum Development Environment) تسمح للشركات بكتابة تطبيقات كمومية دون الحاجة لفهم التعقيدات الفيزيائية للأجهزة. يعتمد هذا الاتجاه على طبقات تجريد (Abstraction Layers) تجعل البرمجة الكمومية أقرب إلى البرمجة التقليدية، وهو ما يمهد لمرحلة تُصبح فيها تطبيقات التحسين، المحاكاة، وتحليل البيانات الكمومية جزءًا من الأدوات المؤسسية اليومية.
- أشباه الموصلات والذاكرة المتقدمة (Semiconductors & Memory Technologies) سجّل القطاع جولة واحدة بقيمة 17.5 مليون دولار، تطوير جيل جديد من الذاكرة (GCRAM) يتميز بكثافة عالية واستهلاك طاقة منخفض، مع إمكانية تصنيعه عبر عمليات CMOS التقليدية، وهو ما يجعل تبنيه أسهل في الصناعة. هذه التقنيات تستهدف بشكل مباشر تحديات تشغيل النماذج اللغوية الضخمة التي تتطلب قدرات تخزين سريعة وواسعة لتقليل زمن التدريب والاستدلال.
- أدوات التطوير وقياس أثر الذكاء الاصطناعي (DevTools) شهد جولة واحدة بقيمة 10 مليون دولار ركّزت على بناء منصات تقيس جودة وتأثير أدوات الذكاء الاصطناعي داخل أقسام التطوير. هذه الأنظمة تربط استخدام أدوات المساعدة في الكتابة (AI Coding Assistants) بمؤشرات كمية مثل جودة الكود، سرعة الإنجاز، وقابلية الصيانة، ما يساعد الشركات على قياس الفائدة الحقيقية للذكاء الاصطناعي بدلاً من الاعتماد على الانطباعات.
- التقنيات الحيوية والجينومية (Biotech & Genomics) شهد هذا القطاع جولة تمويلية واحدة بقيمة 8 مليون دولار استهدفت بناء منصة تصميم علاجات جينية (Gene Editing Designs) تعتمد نموذجا أساسيا (Foundation Model) يتعلم من بيانات مختبرية وسكانية واسعة، لاقتراح تعديلات جينية محسّنة بناء على محاكاة بيولوجية دقيقة. هذا التوجه يشير إلى دمج حقيقي بين علم الأحياء الحاسوبي والابتكار الدوائي، ويعزز قدرة الشركات على تقليل الزمن اللازم لتطوير العلاجات.
- التقنيات السياحية الذكية (Travel Tech) شهد هذا القطاع جولة تمويلية واحدة بقيمة 7.4 مليون دولار مع بروز نماذج «المساعد السياحي الذكي» (AI Concierge) الذي يستخدم بيانات الموقع وملفات المستخدمين وتفضيلاتهم لبناء خطط سفر شخصية، واقتراح أنشطة وتنسيق الحجوزات بشكل تلقائي. هذا الاتجاه يمثل بداية لمرحلة يصبح فيها التخطيط السياحي عملية متكاملة تعتمد على وكلاء يتصرفون كمرشدين رقميين.
- الاستحواذات والاندماجات (Mergers and Acquisitions) شهد شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2025 نشاطا لافتا في سوق الاندماجات والاستحواذات الإسرائيلية، مع صفقات معلنة تتجاوز قيمتها الإجمالية 1.7 مليار دولار، وهو رقم يعكس الحد الأدنى فقط نظرا لعدم الإفصاح عن القيمة الدقيقة لعدد من العمليات. تركزت هذه الصفقات في مجالات الأمن السيبراني، والبنية التحتية للطاقة، وتقنيات الذكاء الاصطناعي للمؤسسات، والبلوكشين، في مؤشر واضح على انتقال التكنولوجيا الإسرائيلية من مرحلة الابتكار السريع إلى مرحلة الاندماج داخل سلاسل القيمة العالمية. ومن اللافت أن جزءا مهما من الجهات المستحوِذة لم يكن من صناديق الاستثمار فحسب، بل من شركات تشغيلية كبرى تسعى إلى تسريع دخولها إلى أسواق الذكاء الاصطناعي أو تعزيز حضورها في البنية التحتية والطاقة، مثل Itron الأميركية التي استحوذت على تقنيات إسرائيلية لإدارة مشاريع الطاقة، وSalesforce التي عززت قدراتها في الذكاء الاصطناعي المؤسسي عبر ضم منصات إسرائيلية للبحث المعرفي المتقدم، إضافة إلى عمليات استحواذ أخرى في البلوكشين من قبل شركات بنية تحتية تشغيلية مثل Paxos. ويعكس هذا التوجه اتساع الدور الاستراتيجي الذي تلعبه الشركات الإسرائيلية بوصفها موردا رئيسيا للتقنيات الجاهزة للدمج (Plug-in Technologies)، وتزايد إقبال الشركات العالمية على الاستحواذ من أجل اختصار الزمن التقني وتقليل المخاطر في سوق تتسارع فيه وتيرة الابتكار بشكل غير مسبوق.