عرفت غزة عبر تاريخها المُمتد لآلاف السنين تناقضاتٍ لا يسع قاريء التاريخ أن يمرّ عليها مرور الكرام وأن لا ينهل منها شيئا من الدروس والعِبر. ومن أبرز هذه التناقضات، أنّ هذه المدينة الساحليّة كانت فعليّا آخر معاقل الوثنيّة على أرض فلسطين، مُعاندة بجبروتها رسالة يسوع التي غمرتْ بنورها بلاد كنعان. لكنّ غزة كانت أيضا المدينة ذاتها التي انطلقت منها وترعرعت فيها ظاهرة الرهبنة المسيحيّة الفلسطينيّة، التي ما إن حلّت فيها، حتى انتشرت خلال بضعة عقود إلى أقاصي الشمال السوريّ، مُؤكدة حقيقة الجغرافيا الأزليّة، وهي أن هذه المدينة كانت وستظلّ بوّابة الشام الجنوبيّة.

في العام 292 للميلاد، ولد في قرية طاباثا، والتي كانت تحتلّ أراضي قرية الزوايدة في يومنا هذا، طفلٌ أسماه والده هيلاريون. كان والد الطفل رجلا ثريّا من عبدة الأوثان الغزيين، وعندما بلغ ابنه سنّ اليفاعة، أرسله إلى الإسكندريّة لطلب العلم. وهناك، عرف هيلاريون الله وآمن بالسيّد المسيح. وهناك أيضا، سمع لأوّل مرّة عن الأنبا أنطونيوس المصري الكبير، أب الرهبان المسيحيين جميعا، وعن تجربة تنسُكه الشاقة في الصحراء، فعزم على زيارته. وعندما رآه ورأى ما يُكابده، تأثّر به أيما تأثر، وقرر أن يسير على دربه الصعب وأن يعيش حياته راهبا. فلمّا عاد إلى غزّة، بنى لنفسه ديرا في تلّ أم عامر، المُشرف على وادي الشريعة، قُبالة ما يُعرف اليوم بمخيم النصيرات. وما هي إلا سنواتٌ حتى انتشرت أديرة الرهبان وصوامعهم في غزّة وما جوارها بتأثير هيلاريون، مُدشنة عهدا جديد في تاريخ المسيحية.

كانت ظاهرة الرهبنة الفلسطينيّة عندما بدأت ظاهرة ريفيّة. فقد وطّن الرهبان أنفسهم في أديرة على ضفاف وادي غزّة أو بالقرب من مزارع الفلاحين. ولمّا كان العنب من الثمار التي تُزرع في سهول غزّة والنقب الغربي، فقد اشتغل الرهبان والأهالي بزراعته وعصره. وعندما غدت المسيحيّة الدين الرسميّ للإمبراطوريّة البيزنطيّة على يد الملك قسطنطين العظيم في أوائل القرن الرابع، وباتت فلسطين “الأرض المقدسة” بألف لام التعريف، ازدهر إنتاج واستهلاك النبيذ في البلاد لتلبية احتياجات المسيحيين الذين كانوا يستخدمونه في طقوس القُربان المقدس، ولبيعه للحجاج الذين تقاطروا على المواقع المقدسة وكانوا يحبّون اقتناء ما تجود به أرض المسيح من عطاياها الكثيرة. وكانت غزة وريفها المركز الرئيسيّ لإنتاج وتصدير النبيذ، وقد اكتسب نبيذ غزّة شهرة عالميّة مرموقة، لدرجة أنّ علماء الآثار اكتشفوا بقايا لجرار غزّة التي كان يُصدّر فيها النبيذ على قوسٍ جغرافيّ يمتد من مدينة عدن اليمنيّة وحتى السواحل الجنوبيّة لإنجلترا.

إن قراءة التاريخ القديم تُعلّم المرء الكثير من التواضع والصبر وتُربّي لديه حسّ التأمل العميق، لكنّ الأهم من ذلك، أنها تفتح أعينه على ممكنات الجغرافيا واحتمالات المستقبل، فما يبدو اليوم مستحيلا أو غير معقول كان بالأمس أمرا من طبائع الأشياء وعاديّاتها. ولقد أثبت التاريخ أن غزّة رغم (وربما بسبب) موقعها الجغرافيّ الفريد على ملتقى قارتين كانت قادرة دوما على الصمود والبقاء والانبعاث من جديد، وأن عناقها المفتوح وغير المُقيّد للبحر كان دوما مفتاحا لتصالحها وانسجامها مع روح العصر وتياراته، وسبيلها لتحجز لنفسها مكانها الذي تستحقه في العالم. لكن، بمقدار ما يكون التاريخ مفيدا، فإنّ الغرق فيه طويلا هو أسوأ ما قد تُبتلى به الأمم، لأنّ الأمم الحيّة لا تحصل على استحقاقها لنفسها ولمكانتها من تاريخها التليد فقط، بل ومن قدرتها على أن تحجز لنفسها مقعدا في المستقبل أيضا.

(الصورة لفسيفساء وجدت في دير كيسوفيم على حدود غزة تعود للقرن السادس الميلادي وتُظهر جرار النبيذ الغزيّة محمولة على جمل).

(Visited 112 times, 1 visits today)