إنّ دراسة تأثير الحرب مُتعدّدة الجبهات على الاقتصاد الإسرائيليّ خلال العام والنصف الأخير تحتاجُ إلى جهدٍ بحثيّ جماعيّ وذلك ليكون من الممكن الإحاطة بكلّ تفاصيل هذا التأثير وأوجهه، ودراسة التحوّلات النوعيّة التي قد تتركها الحرب على هيكل هذا الاقتصاد في المدى القصير والطويل، هذا بالإضافة لاستقصاء التأثيرات المستقبليّة المُحتملة على علاقة إسرائيل الاقتصاديّة بالعالم، أكان على مستوى التجارة أو على مستوى حركة الرساميل من وإلى الدولة العبريّة. وبموازاة ذلك، فإنّ هذا الجهد البحثيّ مطلوبٌ أيضا لفهم المسار الآخر من هذه العلاقة المتبادلة، أي استقصاء تأثير تحوّلات الاقتصادين الإسرائيلي والعالميّ على الحرب، أو بالأحرى على طبيعة القوّة العسكريّة الإسرائيليّة وبنيتها وشكلها وأدواتها ونسيجها الاجتماعيّ، وصولا إلى فهم جوانب التفاعل بين السياسي والاقتصاديّ وبين الاقتصاديّ والعسكري في إسرائيل.
سأسجّل هنا بعض الملاحظات العامّة حول أداء الاقتصاد الإسرائيليّ خلال العام 2024. وهذه الملاحظات الأوليّة ليست جامعة ومانعة حتما، ولا يُمكن بحالٍ من الأحوال اعتبارها تقييما موضوعيّا متكاملا لهذا الأداء، لكنّها مجرّد محاولة متواضعة لقراءة بعض المؤشّرات والأرقام وفهم معانيها. لن تنطوي هذه الملاحظات على مؤشرات متعلّقة بالأداء الاقتصاديّ الكليّ، فقد اخترت أن تكون الملاحظات ذات بعدٍ قطاعيّ، أي أن تُركّز على قطاعاتٍ وصناعاتٍ بعينها في الاقتصاد الإسرائيلي. وفي ظنيّ أن التركيّز القطاعي هذا يُساهم في تقديم صورة أكثر حيويّة وديناميكيّة لحالة الاقتصاد خلال الحرب، وربما يُساعد أيضا في الإضاءة بشكلٍ أفضل على الأبعاد غير العسكريّة لهذه الحرب وتأثير هذه الأبعاد على مسارها ووتيرتها ونتائجها وأداء إسرائيل خلالها.
- قطاع الغاز الطبيعي: من اللافت أنّ إنتاج إسرائيل من الغاز وصل في العام 2024 إلى أعلى مستوى تاريخيّ له بواقع 27.38 مليار متر مكعّب. هذا الأمر كان وراءه عاملان رئيسيّان: الأول هو العامل الأمني/السياسي الذي لعب لصالح إسرائيل، حيث لم تتعرّض منشآت الغاز في البحر المتوسّط لأيّ هجماتٍ كان يُمكن أن تُؤدّي إلى تعطيل الإمدادات إلى السوق المحلّي أو إلى الأسواق الإقليميّة (مصر والأردن). الثاني هو تراجع معدّلات إنتاج الغاز الطبيعيّ في مصر، الأمر الذي أسفر عن زيادة مصر لوارداتها من الغاز من إسرائيل، حيث وصلت هذه الواردات إلى أعلى مستوى لها في العام 2024 أيضا. أدت الحرب إلى تأجيل مشروعات التوسّع في الحقول المنتجة الثلاثة: "ليفياثان"، "تامار"، و"كاريش" بسبب إعادة تقييم المخاطر الأمنيّة التي أجرتها الشركات المُشغّلة لهذه الحقول بعد اندلاع الحرب. لكنّ نهاية الحرب على الجبهة اللبنانية وتراجع احتمالات الحرب الإقليميّة الشاملة ربما يكون من شأنه إعادة التعجيل بهذه المشروعات للاستفادة من التزايد المتوقّع في الطلب على الغاز في السوق المحلّي الإسرائيلي وفي الأسواق الإقليميّة (مصر والأردن).
- قطاع البنوك: تُعدّ الصناعة البنكيّة أكثر الصناعات الإسرائيليّة تركّزا واحتكاريّة. فالقطاع تتحكّم فيه بشكلٍ رئيسيّ ثلاثة بنوك هي: "هابوعاليم"، "ليئوميّ"، و"مزراحي تفحوت". خلال العام 2024، حقّقت جميع هذه البنوك مستويات تاريخيّة من الأرباح. في العادة تكسب البنوك جزءا مهمّا من أرباحها من الفارق بين سعر الفائدة التي تُقرض به زبائنها وسعر الفائدة التي تدفعه على ودائع العملاء. وكلّما كان هذا الهامش أوسع، كلّما كانت أرباح البنوك أكبر. ما حدث هو أنّ الحرب جاءت في ظلّ لحظة كانت فيها أسعار الفائدة العالميّة مرتفعة نسبيّا، وقد ظلّت هذه الأسعار مرتفعة في إسرائيل بسبب سياسة البنك المركزيّ ("بنك إسرائيل") لمكافحة التضخّم. ارتفاع أسعار الفائدة مكّن البنوك الإسرائيليّة من جني أرباحٍ كبيرة، وذلك لأنّه وسّع من الهامش المذكور أعلاه. ومن جانبٍ آخر، فقد دفعت ظروف الحرب الكثير من الإسرائيليين للجوء إلى خطوط الائتمان (السحب على المكشوف)، وهو ما وفر للبنوك الإسرائيليّة قنواتٍ جديدة من الدخل على هيئة فوائد أو رسوم على هذه السحوبات. لقيت الصناعة البنكيّة في إسرائيل خلال الشهور الماضية انتقاداتٍ قاسية على خلفيّة سلوكها خلال العام الماضي، حيث اعتبر الكثير من السياسيين والبرلمانيين هذا السلوك استغلالا لحاجات الناس في زمن الحرب. ويبدو أن "بنك إسرائيل" كان يتشارك هؤلاء نفس التقييم السلبيّ لأداء البنوك خلال الحرب، وهو ما حدى به لإصدار تعليمّات للبنوك الإسرائيليّة لتخصيص تسهيلات ائتمانيّة بقيمة 3 مليارات شيكل (833 مليون دولار) لتخفيف أعباء الأسر الإسرائيليّة التي تضرّرت من جرّاء الحرب.
- قطاع الطيران: تسببت الحرب بإلغاء شركات طيران كثيرة حول العالم لرحلاتها من وإلى مطار بن غوريون. كان ذلك خبرا سعيدا لشركة "العال" الإسرائيليّة للطيران، حيث باتت بسببه الطرف شبه المحتكر للسوق الإسرائيليّ خلال العام الماضي، وتحديدا في الرحلات الجويّة من وإلى الولايات المتحدة. هذا الأمر انعكس في تضاعف أرباح "العال" حوالى خمس مرّات من 116 مليون دولار في عام 2023 إلى 545 مليون دولار في عام 2024. هناك أيضا لعب العامل الأمنيّ والسياسيّ دورا إيجابيّا لصالح صناعة الطيران الإسرائيلية. لكنّ هذا العامل قد لا يكون حاضرا في المستقبل القريب، خاصّة بعد انخفاض التوترات الأمنيّة وعودة شركات الطيران الدوليّة لتشغيل رحلاتها من وإلى إسرائيل. وبهذا المعنى، يمكن القول أنّ النمو الذي حققته "العال" لم يكن نموّا عضويّا، بل كان مكسبا استثنائيّا تحقّق في ظرفٍ شديد الاستثنائيّة. وُيضاف إلى ذلك، إلى أنّ مكانة "العال" الاحتكاريّة -حتى بمعزّل عن الحرب- باتت تحت التهديد بسبب دخول شركات طيران جديدة إلى ميدان المنافسة معها وهو ما قد يؤدي إلى خسارتها جانبا من حصتها السوقيّة في السنوات القريبة المقبلة.
- قطاع التقنيّة العالية: يُعدّ هذا القطاع محرّك النمو في الاقتصاد الإسرائيلي، حيث يُساهم لوحده بحوالى 20% من الناتج المحلّي لإسرائيل وبما يُقارب نصف صادراتها. يعتمدُ هذا القطاع في جانب رئيسيّ منه على المشروعات الناشئة (Startup). وغالبا ما تُقاس حيويّة صناعة التقنيّة العالية في إسرائيل بقيمة رؤوس الأموال التي تستطيع اجتذابها من السوق المحلّي والعالميّ لتمويل هذه المشروعات، بالإضافة إلى عمليات الاستحواذ التي تقوم بها شركاتٌ عالميّة على شركاتٍ إسرائيليّة ناشئة. في العام 2024، اجتذب هذا القطاع استثماراتٍ بقيمة 12.2 مليار دولار، بزيادة قدرها 31% عن استثمارات العام 2023. ويبدو أنّ قدرة هذا القطاع على الاستجابة بشكلٍ جيّد لظروف الحرب مرتبطة أولا باعتماده على حركة رؤوس الأموال العالميّة التي تتحكّم بها عوامل قد لا يكون للحرب أيّ تأثير فيها، وثانيا أن بنيته لا تعتمدُ على أصول ماديّة ملموسة كبيرة (مصانع – خطوط إنتاج – طرق)، بل على النفاذية إلى الإنترنت ومراكز البيانات وأنظمة الحوسبة السحابيّة، وهو ما يجعله أكثر مرونة في التعاطي مع حالات الطوارئ الحربيّة، وثالثا، أن القطاع يوظّف أصلا حوالى 440 ألف موظّف خارج الدولة العبريّة أغلبيتهم أجانب، وبالتالي فإنّ جزءا معتبرا من عمليّاته التجارية تحدث بعيدا عن ساحة المعركة ولا تتأثر بها لا كبنية ولا كأفراد موظفين. بالرغم من ذلك، فإنّ هنالك أصواتٌ تحذّر مؤخرا من أنّ هذه الاعتماديّة الكبيرة على الخارج قد تتوسّع أكثر وتجتذب معها المزيد من الإسرائيليين الساعين للحصول على وظائف في دول أخرى، وهو ما قد يكون مقدّمة لـ "هجرة عقول" في المستقبل القريب، خاصة إذا استمرت حالة الحرب. وتقول الأرقام الرسميّة أن حوالى 8000 آلاف موظّف من قطاع التقنيّة العالية قد غادر إسرائيل منذ بدء الحرب في أكتوبر 2023 وحتى منتصف العام الماضي، وذلك لمدة أكثر من عام. ورغم أنّ رقما كهذا قد يقدم لمحة عن تأثير الحرب في سوق العمل المرتبط بصناعة التقنيّة العالية، إلا أن الجزم بكونه بداية لظاهرة هجرة عقول من إسرائيل يحتاج حتما للمزيد من الوقت والتقييم.
- قطاع الصناعة العسكريّة: لأسباب بديهيّة، فإنّ هذا القطاع كان الرابح الأكبر من اندلاع الحرب متعدّدة الجبهات بعد السابع من أكتوبر. وقد حقّقت شركات القطاع الرئيسيّة وهي: "رافايل"، "إلبيت"، و"شركة صناعات الفضاء" أرباح قياسيّة خلال العام 2024. فشركة "رافايل" زادت مبيعاتها بنسبة 27% عن العام 2023، لتصل إلى 4.8 مليار دولار في العام 2024، وشركة "إلبيت" زادت مبيعاتها بنسبة 14.3% عن العام 2023، لتصل إلى 6.8 مليون دولار في العام الماضي، أما "شركة صناعات الفضاء" فقد حققت نموّا في المبيعات بنسبة 15% مقارنة بالعام 2023، حيث وصلت مبيعاتها إلى 6.1 مليار دولار في العام الماضي. وتجدر الإشارة هنا إلى أن حصّة المبيعات في الأسواق الخارجية لهذه الشركات الثلاثة كانت أكبر من حصّة مبيعاتها في إسرائيل خلال العام 2024، ويعدّ هذا المؤشر أحد الملامح البنيويّة لهذا القطاع الذي يعتمد بشكل رئيسيّ على التصدير. ولذلك يمكن القول أنّ جزءا مهمّا من الأرباح التي حققتها هذه الشركات لم يكن مرتبطا مباشرة بالحرب في المنطقة بقدر ارتباطه بالتوجّه الدوليّ العام لإعادة التسلّح بعد حرب أوكرانيا والذي أتاح للشركات الإسرائيليّة أن تعزز من مبيعاتها في أوروبا وآسيا. وفي ذات الوقت، فإنّ البيانات الماليّة التي أصدرتها هذه الشركات لأعمالها في العام الماضي كشفت أنّ العام 2024 شهد نموّا كبيرا في المبيعات في السوق الإسرائيلي مقارنة بالعام الذي سبقه، وذلك بسبب ارتفاع الطلب من الجيش على المعدّات والذخائر بسبب الحرب مُتعدّدة الجبهات. وبهذا المعنى، فقد اصطادت هذه الشركات عصفورين بحجر واحد لأنها استفادت فعليّا من ماكنة الحرب الدائرة في إسرائيل والعالم على حدّ سواء. وممّا لا شكّ فيه أن هذا القطاع سيشهد في السنوات المقبلة ازدهارا كبيرا على وقع زيادة الإنفاق الدفاعي محليّا ودوليّا، وهو أمرٌ يتلاقى مع الاتجاهات الدوليّة الراهنة، حيث تعيش الشركات الدفاعيّة الغربيّة عموما أياما عظيمة بسبب ارتفاع الطلب على السلاح عالميّا.
