أثارت تصريحات الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب حول تهجير الفلسطينيين من قطاع غزّة وسيطرة الولايات المتحدة عليه ضجّة دولية واسعة، ولا تزال تصريحات ترامب تلقى تفاعلا كبيرا حتى لحظة كتابة هذه الكلمات. ورغم محاولات بعض أركان الإدارة الأمريكيّة، كوزير الخارجية مايك روبيو، تلطيف المواقف التي أعلنها الرئيس الأمريكيّ، إلا أنّ وقعها كان أكبر من أن يُحتوى بسهولة. في إسرائيل، كانت أغلبية ردود الأفعال مبتهجة بما أعلنه دونالد ترامب، ولم تكن هنالك فعليّا أصواتٌ بازرة تناولت ما تفوّه به بالنقد أو التحذير. وسيكون من المفيد رؤية الكيفيّة التي ستتفاعل من خلالها تصريحات ترامب داخل إسرائيل في الفترة المقبلة، خاصة مع تزايد الانتقادات من داخل أوساط الإدارة الأمريكيّة لما جرى الإعلان عنه من قبل الرجل بحضور رئيس الوزراء الإسرائيلي.
يوم أمس، نشر معهد الأمن القوميّ الإسرائيليّ التابع لجامعة تل أبيب تحليلا مطوّلا يحاول رصد التغيّرات التي قد تطرأ على منحى العلاقة بين بعض الدول العربيّة (مصر والأردن وبعض دول الخليج) وإدارة ترامب الثانية، ساعيا لفهم المواقف التي قد تتخذها هذه الدول إزاء الإدارة الجديدة في ضوء التطوّرات التي شهدتها المنطقة منذ السابع من أكتوبر 2023. وقد شارك في كتابة هذا التحليل ثلاثة من الباحثين الإسرائيليين في المركز، من بينهم أميرة أورون السفيرة الإسرائيلية السابقة في مصر (2022-2024). وقد ارتأيتُ ترجمة هذا التحليل لأنه يقدّم موجزا لمصالح وهواجس هذه الدول من وجهة النظر الإسرائيلية، وللطريقة التي ستتعاطى فيها مع الإدارة الأمريكية الجديدة تبعا لهذه المصالح والهواجس.
مُلخص:
من غير المرجح أن يتبع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في ولايته الثانية نفس السياسة التي انتهجها في الشرق الأوسط خلال فترته الأولى. يعود هذا التغيير إلى تحولات إقليمية كبيرة، بما في ذلك تراجع نفوذ إيران وما يُسمى بـ “محور المقاومة”، وتجدّد مركزية القضية الفلسطينية، وتزايد الأهمية الاستراتيجية لدول الخليج في سياق التنافس بين القوى العظمى. يمكن أن تسهم مواقف الرئيس ترامب الإيجابية بشكل عام تجاه بعض الأنظمة في المنطقة، بالإضافة إلى علاقاته الشخصيّة القوية مع قادة رئيسيين، في دفع عمليّة التطبيع الإسرائيلي – العربي. ومع ذلك، فإنّ الحرب ضد “حماس” أعادت تشكيل حسابات اللاعبين الإقليميين الرئيسيين، لا سيما فيما يتعلق بضرورة التوصل إلى تسوية إسرائيلية – فلسطينية، وهو أمر سيحتاج كلٌ من ترامب وإسرائيل لدراسته بعناية.
الترجمة:
أي محاولة للتنبؤ بسياسة الولايات المتحدة تجاه الدول العربية في ظل إدارة ترامب الثانية يجب أن تأخذ في الاعتبار التنوع الكبير بين هذه الدول، فضلاً عن احتمال أن لا يكون نهجه السياسي مماثلاً تمامًا لما كان عليه في ولايته السابقة. ويصدق هذا القول في ضوء التطورات التي شهدها الشرق الأوسط بعد الحرب متعددة الجبهات التي تخوضها إسرائيل منذ 7 أكتوبر 2023. العالم العربي بعيد كل البعد عن كونه كيانًا موحدًا، مما يجعل من الضروري تحليل مراكز القوى الرئيسية فيه -مثل مصر والأردن ودول الخليج- لفهم أفضل للعلاقات المستقبلية بينها وبين الولايات المتحدة. كما ينبغي أن يأخذ هذا التحليل في الاعتبار الأهمية الاستراتيجية لهذه الدول بالنسبة لإسرائيل.
مصر
تنظر مصر إلى بداية ولاية الرئيس ترامب بقلق، كما تعكس ذلك التصريحات الرسمية الصادرة عن القاهرة والتعليقات الواردة في وسائل الإعلام المصرية. وبشكل عام، يمكن تحليل موقف مصر من إدارة ترامب من خلال منظورين رئيسيين: القضية الفلسطينية والعلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة ومصر.
القضية الفلسطينية: من وجهة النظر المصرية، فإن الدعم غير المسبوق الذي قدمته إدارة بايدن لإسرائيل وتضامنها المطلق منذ بداية الحرب ساهما في إطالة أمد القتال في غزة، ومن ثم في لبنان. وقد أسفر هذا الصراع عن عدد غير مسبوق من الضحايا المدنيين وتدمير واسع للبنية التحتية في غزة. ألقت العديد من المقالات الصحفية المصرية باللوم على الولايات المتحدة، تمامًا كما ألقت باللوم على إسرائيل، في “المجزرة” و”الإبادة الجماعية”، وفقًا لتوصيف كتابها. إضافة إلى ذلك، رأى محللون أن الولايات المتحدة كانت تمتلك القدرة على منع التصعيد الإقليمي لكنها امتنعت عن ذلك مع تقدم الحرب. وعلى الرغم من الجهود التي بذلتها الإدارة الأمريكية للتوصل إلى وقف إطلاق النار، تجاهلت إسرائيل هذه المحاولات، ربما على أمل فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية.
إلى جانب الاستياء الواسع النطاق، سواء على المستوى الشعبي أو الحكومي، من إدارة بايدن، يسلط المعلقون والخبراء الضوء بشكل متكرر على سياسات ترامب المؤيدة لإسرائيل في ولايته الأولى، لا سيما نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والاعتراف الكامل بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان، و”صفقة القرن”، التي أدت إلى اتفاقيات أبراهام.
علاوة على ذلك، حظيت التعيينات الرئيسية التي أجراها ترامب بعد انتخابه باهتمام كبير، بما في ذلك وزير الخارجية، والسفير الأمريكي لدى الأمم المتحدة، والسفير لدى إسرائيل، والمبعوث الخاص للشرق الأوسط. يرى المراقبون أن هذه الاختيارات تشير إلى استمرار -وربما تصعيد- الموقف المؤيد لإسرائيل، خصوصًا في دعم الحكومة الإسرائيلية وسياساتها الاستيطانية في يهودا والسامرة (الضفة الغربية). كما حذر خبراء بارزون، بمن فيهم عمرو موسى، الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية ووزير الخارجية المصري، من دخول المنطقة في “عصر الهيمنة الإسرائيلية”، حيث ستسعى إسرائيل لترسيخ سيطرتها على الشرق الأوسط. ويتوقع هؤلاء الخبراء أن تواصل إسرائيل معارضة إقامة دولة فلسطينية، مما يعني استمرار الاحتلال.
وقد عزز تصريحان حديثان للرئيس ترامب هذه المخاوف وأثارا ردود فعل قوية في مصر. الأول جاء خلال حملته الانتخابية في 16 أغسطس 2024، عندما قال إن “إسرائيل صغيرة جدًا”، واصفًا إياها بأنها “بقعة صغيرة مقارنة بالمساحات الشاسعة في الشرق الأوسط”، مشيرًا إلى أنه ينبغي توسيعها. أما التصريح الثاني، الذي تصدّر عناوين الصحف المصرية، فكان تحذيره من أنه إذا لم يتم إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين المحتجزين لدى حماس بحلول يوم تنصيبه، فإن “الجحيم سينفجر في الشرق الأوسط.” وقد فُسرت هذه التصريحات في مصر على أنها إشارة إلى نيته ممارسة ضغوط عدوانية على حماس والمنطقة بأسرها لصالح إسرائيل. وأشار المعلقون إلى أن مثل هذا التهديد المباشر لم يُسمع من قبل، وينبغي أخذه على محمل الجد نظرًا لعدم القدرة على التنبؤ بتصرفات ترامب واستعداده لاتخاذ إجراءات قصوى. وخلصوا إلى أن المنطقة بأكملها ستدفع ثمنًا باهظًا من أجل مصالح إسرائيل، التي يرون أنها ستظل محمية ومدعومة بالكامل من قبل إدارة جمهورية.
العلاقات الثنائية بين مصر والولايات المتحدة: ظلت العلاقات بين الولايات المتحدة ومصر مستقرة لعقود، مع الحد الأدنى من الخطاب التصادمي. ومع ذلك، برزت التوترات مجددًا عندما اشترطت إدارة بايدن، في سبتمبر 2023، تقديم 320 مليون دولار من إجمالي المساعدات السنوية البالغة 1.3 مليار دولار بتحقيق تقدم ملموس في سياسات مصر الخاصة بحقوق الإنسان، بما في ذلك الإفراج عن السجناء السياسيين. وفي الوقت نفسه، استمرّ التواصل الدبلوماسيّ رفيع المستوى، حيث قام وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، بزيارات متكررة إلى القاهرة بهدف تنسيق المواقف بشأن الحرب في غزة.
خلال الولاية الأولى لترامب، أدت العلاقة القوية بينه وبين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى دعم أمريكي أكبر بكثير مقارنة بفترة حكم الرئيس باراك أوباما. تم تخفيف المخاوف بشأن احتياجات مصر من التسلح، كما تم تقديم المساعدات الأمريكية دون شروط علنية تتعلق بحقوق الإنسان، حيث جرت هذه المناقشات خلف الأبواب المغلقة، مع نصيحة لمصر بتجنب المواجهات المباشرة مع منتقديها في واشنطن. جانب آخر من الدعم الأمريكي لمصر تمثل في القرض السخي الذي قدمه صندوق النقد الدولي، والذي لعب دورًا حاسمًا في استقرار الاقتصاد المصري. أما بالنسبة للتوقعات حول ولاية ترامب الثانية، فمن المرجح أن يستمر الدعم لبرامج المساعدات التي يقدمها صندوق النقد الدولي، بالإضافة إلى تأييد موقف مصر بشأن سدّ النهضة الأثيوبي الكبير، وهو الموقف الذي سبق أن أيده ترامب خلال ولايته الأولى.
تتحدد توقعات مصر تجاه إدارة ترامب الثانية بناءً على عدة عوامل: هويته كرجل أعمال يجيد إبرام الصفقات، وموقفه الإيجابي بشكل عام تجاه مصر والرئيس السيسي، وسياساته السابقة المؤيدة لإسرائيل، إضافة إلى تصريحاته الأخيرة بشأن القضية الفلسطينية. تسهم هذه العوامل في تشكيل تقييم حذر، مصحوب بمخاوف من أن يتبع ترامب نهجًا مشابهًا لفترته الأولى، وإن كان مع بعض التحسن مقارنة بإدارة بايدن، خاصة فيما يتعلق بالجهود المبذولة لإنهاء الحرب في غزة.
الأردن
حافظت الأردن لعقود على تحالف استراتيجي مع الولايات المتحدة، مستفيدة من دعم الحزبين الجمهوري والديمقراطي. وخلال الحملة الانتخابية الرئاسية الأمريكية الأخيرة، التزمت عمّان بالحياد، وعقب الإعلان عن النتائج، هنأ الملك عبد الله دونالد ترامب على فوزه، معربًا عن أمله في العمل معًا من أجل تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة. ومع ذلك، وبعيدًا عن المجاملات الدبلوماسية، من الواضح أن معظم المعلقين المقربين من الدوائر الأردنية غير راضين عن عودة ترامب إلى البيت الأبيض. فهم يرون أن إدارته ستكون أقل دعمًا للأردن مقارنة بالإدارة السابقة، سواء على مستوى العلاقات الثنائية أو في سياق السياسة الأمريكية الأوسع في الشرق الأوسط.
تُذكر الولاية الأولى لترامب في الأردن كفترة شهدت استقرارًا في العلاقات مع الولايات المتحدة، حيث استمرت المساعدات الأمريكية للمملكة كالمعتاد. ومع ذلك، لم يكن هناك تواصل شخصي عميق بين زعماء البلدين، وبقي الأردن على هامش سياسة إدارة ترامب في الشرق الأوسط. على النقيض من ذلك، شهدت العلاقات الأردنية – الأمريكية تحسنًا خلال رئاسة بايدن. ففي سبتمبر 2022، وقّعت واشنطن وعمّان مذكرة تفاهم مطوّرة متعددة السنوات (2023–2029) تضمن للأردن ما لا يقل عن 1.45 مليار دولار سنويًا كمساعدات اقتصادية وعسكرية، بزيادة قدرها 13.7% مقارنة بالاتفاق السابق. ومن المتوقع أن تصل المساعدات السنوية المقررة لعام 2025 إلى 2.1 مليار دولار، وفقًا لميزانية أقرها الكونغرس. إلا أن هذه المساعدات تخضع حاليًا لمراجعة مدتها 90 يومًا، وهي خطوة بادر بها ترامب فور توليه منصبه، في حين استُثنيت المساعدات الأمريكية لمصر وإسرائيل من هذه المراجعة واستمرت كالمعتاد.
على عكس بايدن، ترى عمّان أن ترامب لا يُولي أهمية كافية لدور الأردن الإقليمي، وبدلاً من ذلك، يفضل دول الخليج الغنية، لا سيما الإمارات العربية المتحدة والسعودية. فبالنسبة لترامب، تُعد هاتان الدولتان شريكين رئيسيين للولايات المتحدة في المجال الاقتصادي، خاصة في قطاع صناعة الأسلحة، بينما يُنظر إلى الأردن -الذي يفتقر إلى موارد كبيرة- إلى أنه أقل مساهمة في المصالح الاقتصادية الأمريكية. ومع ذلك، تدرك الأردن أن هناك جانبًا إيجابيًا محتملاً في نهج ترامب تجاه العلاقات الثنائية، حيث إن إدارته تركز بدرجة أقل على قضايا حقوق الإنسان والحريات المدنية (على الرغم من أن إدارة بايدن نادرًا ما اصطدمت مع الأردن في هذه الملفات أيضًا).
المصدر الرئيسي لقلق الأردن من عودة ترامب إلى السلطة هو سياسته الإقليمية. خلال ولايته الأولى، تبنى ترامب سياسات اعتبرتها عمّان منحازة لإسرائيل ومضرة بالفلسطينيين. ومن أبرز الأمثلة على ذلك نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، وقطع التمويل عن وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، والترويج لـ”صفقة القرن”، التي فُسّرت في بعض الأوساط الإسرائيلية على أنها تأييد أمريكي لتطبيق السيادة الإسرائيلية بشكل أحادي على أراضٍ في يهودا والسامرة (الضفة الغربية). بالنسبة للأردن -حيث يشكل الفلسطينيون نحو نصف السكان- مثلّت هذه الإجراءات، ولا تزال تمثل، تهديدًا مباشرًا لاستقرار المملكة وأمنها الوطني. وتخشى عمّان أن تؤدي ولاية ترامب الثانية إلى سياسات أكثر تطرفًا، خاصة في ظل الحكومة اليمينية الإسرائيلية والشخصيات البارزة في إدارة ترامب المعروفة بتوافقها القوي مع الموقف الإسرائيلي بشأن الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني.
السيناريو الأسوأ بالنسبة للأردن هو إحياء خطة على غرار “صفقة القرن” من قبل إدارة ترامب بالتنسيق مع الحكومة الإسرائيلية. من منظور عمّان، تشمل المخاطر الفعلية ضم إسرائيل لأجزاء من يهودا والسامرة (الضفة الغربية)، والتشجيع المباشر أو غير المباشر على هجرة الفلسطينيين من الضفة الغربية أو غزة إلى الأردن (كما اقترح ترامب مؤخرًا)، وتقويض الوضع الخاص للأردن في المواقع المقدسة في القدس. ترى الأردن أن مثل هذه الإجراءات ستشكل ضربة قاتلة لحل الدولتين، وستعزز مفهوم “الوطن البديل” -أي سيناريو يتم فيه حل القضية الفلسطينية على حساب الأردن- مما يهدد هويته الوطنية الفريدة. ويعتبر المعلقون الأردنيون المقربون من الديوان الملكي هذا السيناريو بمثابة “خط أحمر” أو حتى “إعلان حرب”.
مخاطر أخرى ترى الأردن أنها قد تنشأ في ظل إدارة ترامب الثانية تتعلق بسياسته تجاه إيران، والتي يُتوقع أن تكون أكثر تشددًا من نهج بايدن، مما قد يؤدي إلى تصعيد النزاعات الإقليمية التي تؤثر بشكل مباشر على المملكة. فمنذ 7 أكتوبر 2023، تواجه الأردن أنشطة تخريبية من قبل إيران ووكلائها داخل مجالها الجوي وأراضيها، إضافة إلى اضطرابات في الملاحة البحرية تسبب بها الحوثيون، ما أثر على الوصول إلى ميناء العقبة، البوابة البحرية الوحيدة للأردن. وفي الوقت نفسه، قد يحمل النهج المتشدد لترامب تجاه إيران بعض الفوائد المحتملة للأردن، مثل تعزيز الردع الأمريكي ضد طهران، وإضعاف رؤيتها لـ”الهلال الشيعي” بشكل أكبر، والحد من الأنشطة التخريبية الإيرانية التي شكلت تهديدًا متزايدًا للحدود الأردنية في السنوات الأخيرة.
نظرًا للتحديات التي تطرحها عودة ترامب إلى الرئاسة، من المرجح أن تتخذ الأردن خطوات على مسارين رئيسيين:
تعزيز القيمة الاستراتيجية للأردن في واشنطن: ستسعى الأردن إلى إثبات دورها الأساسي في الحفاظ على الأمن والاستقرار الإقليمي، من خلال مواءمة سياساتها مع القضايا الرئيسية التي تتماشى مع رؤية إدارة ترامب. وتشمل هذه القضايا استقرار سوريا ما بعد الأسد والمساهمة في إعادة إعمارها، مكافحة الإرهاب، لا سيما منع تهريب الأسلحة والمخدرات على طول الحدود الأردنية مع سوريا وإسرائيل، دعم الجهود الرامية إلى كبح النفوذ الإيراني وتقويض أنشطة وكلائه في المنطقة، الحفاظ على الهدوء في المواقع المقدسة في القدس لمنع اندلاع مزيد من الاضطرابات، تعزيز التكامل الإقليمي من خلال تطوير البنية التحتية للغاز الطبيعي وتحسين شبكات النقل وتعزيز طرق التجارة التي تربط موانئ البحر الأبيض المتوسط بدول الخليج، والمشاركة في جهود التطبيع العربي – الإسرائيلي، مع مراعاة القيود التي يفرضها الرأي العام الداخلي في المملكة.
إحباط “صفقة قرن جديدة”: ستسعى الأردن إلى بناء تحالف دولي، يضم مصر والسعودية والاتحاد الأوروبي، بهدف إقناع إدارة ترامب بطرح إطار محسن لحل الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. سيكون الهدف النهائي هو تحقيق حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية.
من وجهة نظر الأردن، أثبتت الحرب التي اندلعت في 7 أكتوبر أن القضية الفلسطينية لا يمكن تجاهلها، وأن الاستقرار الإقليمي -وخاصة أمن الأردن نفسه- يعتمد على إيجاد حل عادل لهذه القضيّة. بالإضافة إلى ذلك، ترى عمّان أن التطبيع الإسرائيلي– السعودي يمثل آخر ورقة ضغط رئيسية يمتلكها العالم العربي لدفع إسرائيل نحو تقديم التنازلات الضرورية للتوصل إلى تسوية دائمة. في المقابل، فإن اتفاق تطبيع بين السعودية وإسرائيل لا يتضمن أفقًا دبلوماسيًا واضحًا للفلسطينيين قد يعيد فتح النقاش حول سيناريو “الوطن البديل”، وهو احتمال تعارضه الأردن بشدة. لذلك، تعلّق عمّان آمالها على نفوذ السعودية في واشنطن وتسعى إلى تشكيل موقف عربي موحد بقيادة الرياض.
كلما تمكنت الأردن من تعزيز قيمتها الاستراتيجية وإقناع إدارة ترامب بضرورة دعم أفق سياسي للفلسطينيين، كلّما زادت قدرتها على تحقيق توازن بين أولوياتها المتنافسة، المتمثلة في الحفاظ على علاقاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وإدارة الضغوط الداخلية للرأي العام الأردني. من جانبها، يمكن لإسرائيل أن تشجع إدارة ترامب على الاعتراف بالدور الإقليمي المحوري للأردن، والدفع نحو نهج أكثر مراعاة لحساسيات واحتياجات عمّان. مثل هذه الخطوة لن تعزز فقط استقرار الأردن والمنطقة، بل قد تسهم أيضًا في تحسين العلاقات الثنائية المتوترة بين القدس وعمّان.
الدول الخليجية
تنظر دول الخليج عمومًا إلى إعادة انتخاب ترامب على أنها تطور إيجابي، رغم وجود تباينات استراتيجية وتفضيلات مختلفة بينها. فعلى سبيل المثال، خلال ولاية ترامب الأولى، لم تكن هناك علاقات شخصية معروفة بين إدارته وقيادة قطر، على عكس العلاقات الوثيقة، بل وحتى الشخصية، التي طورها ترامب وفريقه -وخاصة صهره جاريد كوشنر- مع حكام السعودية والإمارات. وبالمقارنة مع العلاقات المتوترة التي شهدتها هذه الدول مع إدارة أوباما، لعبت هذه الروابط دورًا في تشكيل اتفاقيات أبراهام.
على الرغم من التحسن الكبير في العلاقات السعودية والإماراتية مع إدارة بايدن في نهاية ولايته، ترى دول الخليج أن عودة ترامب إلى السلطة تحمل مزايا أكثر من العيوب. فهي تتوقع تعاونًا أوثق واهتمامًا أكبر بمصالحها في واشنطن. وباستثناء عدم رد الولايات المتحدة على الهجوم الذي شنته إيران ووكلاؤها على المنشآت النفطية السعودية في سبتمبر 2019، تُعتبر ولاية ترامب الثانية، بشكل عام، الخيار الأكثر تفضيلًا من منظور هاتين الدولتين.
أولًا، يتمتع ترامب والعديد من أعضاء فريقه بمعرفة جيدة بالقادة الإقليميين الرئيسيين، مثل ولي العهد السعودي والحاكم الفعلي للمملكة، الأمير محمد بن سلمان، ورئيس الإمارات، الشيخ محمد بن زايد. وخلال حملته الانتخابية، أشاد ترامب مرارًا بابن سلمان، واصفًا إياه بـ”الصديق”، وحافظ على علاقاته الوثيقة معه حتى خلال رئاسة بايدن. كما تشير التقارير إلى وجود تعاملات تجارية واسعة بين ترامب وعائلته ودول الخليج. بل إن أول اتصال أجرته إدارة ترامب بعد عودته إلى البيت الأبيض كان مع ولي العهد السعودي.
ثانيًا، وكما كان الحال مع مصر، لم يمارس ترامب في ولايته الأولى أي ضغوط على دول الخليج فيما يتعلق بحقوق الإنسان أو غياب الحريات السياسية. وعلى النقيض، كان بايدن شديد الانتقاد للسعودية، حتى أنه هدد بفرض عقوبات، خاصة على خلفية مقتل جمال خاشقجي وحرب السعودية في اليمن.
ثالثًا، تتوقع دول الخليج أن يتبنى ترامب نهجًا أكثر عدوانية تجاه إيران مقارنةً ببايدن، من خلال قيادة حملة ضغوط اقتصادية ودبلوماسية إضافية لإضعاف طهران. يأتي ذلك علاوة على الأضرار التي لحقت بإيران بالفعل نتيجة الهجمات الإسرائيلية ضدها وضد ما يسمى بـ”محور المقاومة” خلال العام الماضي.
وأخيرًا، باتت القضية الفلسطينية أكثر حضورًا على الأجندة الإقليمية، خصوصًا بعد الحرب في غزة، نظرًا لتأثيرها الكبير على الرأي العام في الخليج. لذلك، تتوقع دول الخليج أن يدفع ترامب نحو عملية دبلوماسية إقليمية تشمل التطبيع بين إسرائيل والسعودية، إلى جانب إحراز تقدم في العملية السياسية الإسرائيلية – الفلسطينية. ويبدو أن هذا التوقع نابع من ثقة الخليج في قدرة ترامب على التأثير في صناع القرار الإسرائيليين، لا سيما رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. ففي تصريحات علنية قبل فوز ترامب الانتخابي، تحدث مسؤولون بارزون في السعودية والإمارات -بصراحة أكثر من أي وقت مضى- عن رغبتهم في تحقيق تقدم نحو إقامة دولة فلسطينية. بالنسبة للسعودية، يظل هذا شرطًا للتطبيع مع إسرائيل، أما بالنسبة للإمارات، فهو شرط أساسي لمشاركتها في جهود استقرار وإعادة إعمار غزة بعد الحرب.
تغييرات إقليمية كبيرة تصب في مصلحتها وأبرزها إضعاف إيران. وبالمقارنة مع موقف ترامب تجاه التسوية الإقليمية والتطبيع الإسرائيلي- السعودي، يبدو أن سياسته تجاه إيران أكثر وضوحًا. وبعد عام ونصف من الحرب، أدى تصاعد أهمية القضية الفلسطينية إلى تقليص العديد من الفجوات، خاصة بين دول الخليج الأكثر اعتدالًا وبين موقفي مصر والأردن.
فيما يخص العلاقات الأمريكية – السعودية تحديدًا، هناك توقع بمرحلة “شهر عسل” بين الجانبين، نظرًا لما يوليه ترامب من أهمية للمملكة وقيادتها، سواء فيما يتعلق بنفوذها الإقليمي أو أمن الطاقة أو صفقات الأسلحة. وفي كثير من النواحي، تعتبر السعودية شريكًا أكثر طبيعية بالنسبة لترامب من إسرائيل، نظرًا لنهجه البراغماتي القائم على المصالح التجارية والتعاملات المباشرة. ومع ذلك، لا يعني هذا أن التحديات لن تظهر، خاصة فيما يتعلق برغبة السعودية في إبرام معاهدة دفاع قوية، وهو ما قد لا يتماشى مع رؤية ترامب الأوسع التي تركز على تقليص الالتزامات العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط.
استخلاص
ختامًا، هناك إجماع واسع بين الدول العربية على ضرورة منح القضية الفلسطينية أهمية أكبر مما كانت عليه في خطة السلام التي قدمها الرئيس ترامب خلال ولايته الأولى، أو كما اقترحتها بعض هذه الدول قبل 7 أكتوبر 2023. إذا رفضت إسرائيل هذا المنظور الإقليمي الأوسع وأصرت على معارضة أي تقدم نحو تسوية إسرائيلية – فلسطينية، فإنها تخاطر بالعزلة وقد تفوّت فرصة تاريخية لتحقيق السلام مع دول عربية إضافية، وعلى رأسها السعودية. علاوة على ذلك، قد يؤدي هذا الموقف إلى توتر العلاقات بين إسرائيل وكل من مصر والأردن والدول الموقعة على اتفاقيات أبراهام. كما أن الرفض التام لإبداء أي مرونة بشأن القضية الفلسطينية قد يتسبب في حدوث توترات بين إسرائيل وإدارة ترامب، التي قد تجد نفسها أقرب إلى مواقف الدول العربية في هذا الملف.
