في خطبة الجمعة الأخيرة التي ألقاها في طهران الأسبوع الماضي، قال علي خامنئي: "إن الولايات المتحدة تسعى إلى تحويل إسرائيل إلى بوّابة لصادرات الطاقة من المنطقة إلى العالم الغربيّ واستيراد السلع والتكنولوجيا من الغرب إلى المنطقة". بعض المراقبين اعتبر أن كلام خامنئي كان تلميحا لمشروع الممر البحريّ – البريّ الذي أُعلن عنه في قمّة دول العشرين في نيودلهي العام الماضي، وهو المشروع الذي يرمي إلى ربط موانيء الهند بموانيء إسرائيل عبر ممرّات بحريّة وخطوط سكك حديد وأنابيب لنقل الطاقة والبضائع في إطار فضاءٍ استراتيجيّ مُستحدث يقوم على أساس مشروع "السلام الإبراهيمي" والسوق الإقليميّة المشتركة، بحيث تكون إسرائيل عُقدة رئيسيّة في هذا الفضاء.
الخامنئي ليس أوّل من تحدّث عن هذا المشروع بطبيعة الحال. فمنذ ما يزيد على عقدٍ من الزمن، باتت نظريّات أنابيب الطاقة ومشروعات النقل واللوجستيّات الإقليميّة رائجة بشدّة، حتى أن الكثير من الساسة والقوى السياسيّة أصبحت توظّف هذه النظريّات لتبرير مواقفها، بينما استندت طائفة واسعة من المُحللين الاستراتيجيين والسياسيين إلى هذه النظريات لتفسير كل أشكال الصراعات في المنطقة تقريبا، بحسّ مؤامراتي واضح وتسبيلة عيون توحي بأنّ صاحبها كشف أسرار الكون كلّها بضربة واحدة، حتى بات هذا النوع من التحليلات مبتذلا إلى أبعد حد. ويبدو أن هذه موضة تعيشها منطقتنا، حيث تنتشر في كلّ حقبة زمنيّة مقولاتٌ معينة دون تمحيص أو تدقيق، وتتحوّل مع الوقت إلى إطارٍ نظريّ لتفسير الظواهر السياسيّة، رغم أنّ هذا الإطار كثيرا ما يكون مرتكزا إلى فرضيّات متهافتة أو ضعيفة أو حقائق ناقصة.
على المستوى الشخصيّ، بتُ أتحسّس مسدسي كلّما سمعتُ هذا النوع من التحليلات، رغم أن فكرة "المشروعات الكبيرة" تسحرني للغاية. فبرأيي، لا معنى لأن يُفكّر المرء بالسياسة بدون التفكير في مشروعات التكامل الاقتصاديّ والطاقة والسدود والسكك الحديد والتكنولوجيا وغيرها، ولو من باب التمرين الذهنيّ الدائم. وقد كنتُ أنوي الكتابة بتوسّع في هذا الأمر، والحديث عن العقبات والممكنات لهذا النوع من المشروعات الإقليميّة، خاصة أن منطقتنا عرفت العديد منها على يد القوى الغربيّة منذ بداية القرن العشرين، إلا أن المقام هنا لا يتسع للكثير من التفصيل، ولذلك سأكتفي بتقديم بعض المعطيات المتعلّقة بجانب واحد من هذا الموضوع، وهو المختص بالطاقة.
إن غالبيّة من يتحدّثون عن تحويل إسرائيل لمنصّة لتصدير الطاقة من المنطقة إلى الغرب يتجاهلون مجموعة من العوامل الرئيسيّة التي استجدّت خلال العقدين الأخيرين، وهي عوامل أحدثت تحوّلا في الجغرافيا السياسيّة لاقتصاديّات الطاقة حول العالم إن صح التعبير. الأول هو انتقال مراكز النمو الاقتصاديّ إلى منطقة آسيا في مقابل تراجع محرّكات هذا النمو في الغرب لأسباب هيكلية يطول الحديث فيها. الثاني هو ثورة الغاز الصخري في الولايات المتحدة، والتي جعلت من بلاد العم سام مُصدّرا صافيا للطاقة بعد أن كانت لعقود طويلة مستوردا صافيا للطاقة، وبالتالي دخولها إلى سوق الطاقة العالميّ كلاعب كبير بكلّ ما ينطوي عليه هذا الأمر من تبعات سياسيّة (الولايات المتحدة مثلا أصبحت المزوّد الأول لأوروبا بالغاز المُسال في أعقاب اندلاع حرب أوكرانيا وقطع إمدادات الغاز الروسيّة للكثير من بلدان القارة العجوز). الثالث هو الطفرة الكبيرة في مشروعات الغاز حول العالم وتطوّر تكنولوجيات نقل وتسييل الغاز الطبيعي (أي تحويله إلى صورة سائلة)، وهو ما أتاح القفز عن الحدود السياسيّة في مسألة نقل الطاقة، ومكّن من دخول لاعبين غير تقليديين إلى هذا الملعب، وسمح للكثير من بلدان العالم من استيراد الطاقة بدون الحاجة للاعتماد على غاز الأنابيب.
هذه العوامل الثلاثة ساهمت بتغيير مركز الثقل الطاقوي في العالم، وغيّرت علاقة منطقتنا العربيّة بهيكل الطاقة العالمي. فبعد أن كانت المنطقة المصدر الرئيسي للطاقة للولايات المتحدة وأوروبا، انقلبت الموازين تماما، وباتت آسيا هي الوجهة الرئيسيّة لصادرات النفط والغاز من الخليج. ونحن حين نتأمل الأرقام لا يغدو أمامنا سوى التسليم بحقيقة هذا التحوّل، فالسعوديّة تُصدّر 75% من نفطها لقارة آسيا، والعراق تُصدّر 65% من نفطها إلى آسيا، والإمارات تُصدّر 98% من نفطها إلى آسيا، والكويت تصدر 96% من نفطها إلى آسيا، بينما تُصدر قطر 80% من غازها المُسال إلى آسيا. أمام هذه الأرقام، ما الحاجة لإسرائيل لتكون منصّة لتصدير موارد الطاقة العربيّة إذا كانت غالبية هذه الموارد تذهب شرقا لا غربا؟