كنتُ أظنّ آلة الزمن اختراعا أسطوريّا حتى دلفتُ من بوّابة بو جلود إلى مدينة فاس العتيقة، وخلال لحظاتٍ قليلة، عاد بي الزمن إلى الوراء سبعة أو ثمانية قرونٍ على الأقل. ابتعتُ عند وصولي جلّابة مغربيّة من أحد تجّار الأقمشة، وأطلقتُ لقدميّ وروحي العنان في رحلات تسكّع لا تنتهي في متاهة فاس العظيمة المُؤلّفة من أزيد من تسعة آلاف زُقاق، ومع كلّ خطوة كنت أخطوها في تلك المتاهة، كانت حالة الاستغراق تستبدّ بي أكثر وأكثر حتّى أصبحتُ معها خفيفا كريشة يمام، مُنساقا مع جموع الناس بلا هُدى، وخلتُ نفسي لبُرهة أتمشّى في صفحاتٍ من كتابٍ عتيقٍ لابن خلدون أو ابن حزم الأندلسيّ، تغشاني رائحة البخور والعطور والزيوت المُنبعثة من كلّ مكان في ظلال عَمارةٍ فيها من الإبداع والأصالة وإتقان التفاصيل ما لم تستطع السنون أن تنال من بهائه وروعته، فأُضيف إلى السحر سحرٌ جديد. وبعد أن فرغتُ من جولاتي الطويلة التي طفتُ فيها على قيساريّات الحِرف والمساجد والمدارس القديمة والحوانيت وأحواض دبغ الجلود، استقليتُ السيّارة من فاس في رحلة استغرقت ثماني ساعات عبرتُ خلالها سلسلة الأطلس الصغير إلى أقاصي الجنوب المغربيّ، قريبا من حدود الجزائر. وفي عالم التخوم ذاك، حيث يمتزج الطوارق بالأمازيغ، وحيث يتحرّر المرء من ثقل الوقت، ركبتُ الجمل برفقة مُرشدي علي، واندفعنا معا إلى قلب الصحراء في رحلة لأكثر من ساعتين، حتى إذا دنت ساعة الغروب جلسنا على كثيب رمليّ شاهق نتأمّل الشمس وهي تودّع نهارها الطويل وتغمر الفضاء بسكونٍ عميق يزيل عن البدن ما علق به من وعثاء السفر ويُسلّم العقل لوسنٍ خفيف تستريح معه الحواس وتهجع فيه الروح، وهكذا، حتّى إذا ما أرخى الليل سُدوله، قفلنا عائدين تحت السماء الصافية التي ازدانت بالنجوم المُشعّة، ومن بعيد كان النسمات تحمل لنا أصوات غناء الكناوة بإيقاع طبوله المميّز واعدة بليلة سمرٍ لا تنتهي.

(Visited 141 times, 1 visits today)