- كان يوم أمس يوما استثنائيّا في تاريخ شركة "أبل"، فقد قامت الشركة لأوّل مرّة ببيع جهاز "آيفون" مصنوعٍ في الهند في حفل إطلاق جيلٍ جديدٍ من هواتفها المحمولة. وبدأت الشركة بتصنيع "آيفون" في الهند عام 2017، لكنّ الأمر ظلّ مقتصرا على الطرازات القديمة. وفي العام الماضي، بدأت الشركة بتصنيع الطرازات الحديثة مثل "آيفون 14" هناك، لكن لم يسبق لـ "أبل" أن قامت بعرض هذه الأجهزة في اليوم الأوّل للبيع كما جرى بالأمس، حيث تأخّر الإنتاج الهنديّ من آخر طراز دوما عن الإنتاج الصينيّ منه بحوالى 6-9 أشهر بسبب مشكلاتٍ لوجستيّة. بيع أعداد من جهاز "آيفون 15" هندية بالأمس مؤشر على تحقيق تقدّم في إغلاق هذه الفجوة.
- بسبب التأثيرات الكبيرة لسياسة الحكومة الصينيّة لمكافحة "كوفيد- 19" على النشاط الصناعيّ، وبسبب ازدياد المخاوف الجيوسياسيّة من تصاعد النزاع بين بكّين وواشنطن، فقد سرّعت شركة "أبل" في السنوات الأخيرة من استراتيجيتها لتنويع سلسلة الإمداد الخاصة بأجهزتها الإلكترونيّة بعيدا عن الصين. وتعدّ الهند وفيتنام على رأس قائمة البلدان التي تسعى الشركة لنقل سلاسل إمداد أجهزتها الإلكترونيّة إليها. وينسجم هذا الأمر مع السياسة الأمريكيّة القاضية بتعميق العلاقة مع هذين البلدين الآسيويين في السنوات الأخيرة لمواجهة تنامي النفوذ الصينيّ في المنطقة (اقرأ الزياة التاريخيّة الأخيرة لبايدن لهانوي قبل يومين وتوقيع اتفاق شراكة استراتيجية بين أمريكا وفيتنام).
- تُصنّع شركة "أبل" في الوقت الحالي حوالى 7% من إنتاجها من أجهزة "آيفون" في الهند، وتطمح لزيادة هذه النسبة إلى 25% بحلول العام 2025. وفي المرحلة الأولى، تُخطّط الشركة لبيع جزءٍ مُعتبر من هذا الإنتاج في السوق الهنديّ، حيث أن حصّتها فيه لا تزال متواضعة، إذ تبلغ 4% من مبيعات الهواتف المحمولة هناك، في الوقت التي تستحوذ شركتا "سامسونغ" و"شاومي" على حصّة سوقيّة تبلغ 19% و20% على التوالي. وفي وقت لاحق، ستستغل "أبل" قاعدة التصنيع الجديدة في الهند من أجل تصدير أجهزة "آيفون" من هناك للعالم. وقد تضاعفت قيمة صادرات الهند من أجهزة "آيفون" أربع مرّات خلال العامين الأخيرين، لتصل إلى حوالى 5 مليار في العام الماليّ الأخير 2022-2023.
- سلسلة الإمداد الخاصة بالأجهزة الإلكترونيّة المختلفة لـ "أبل" شديدة التعقيد والتنوّع وهي تمتد على مساحة العالم بأسره. وبحسب أرقام العام 2022 المنشورة من قِبل الشركة، فقد بلغ عدد مزودي القطع والخدمات التي تدخل في إنتاج هذه الأجهزة 430 مزوّدا. تكمن مشكلة "أبل" أنّ هذه السلسلة شديدة التركّز في الصين حيث بلغ عدد المزودين فيها خلال ذلك العام 151 مزوّدا، في مقابل 44 في اليابان، 41 في تايوان، 32 في أمريكا، 25 في كوريا الجنوبيّة، 25 في فيتنام، 22 في أوروبا، 21 في سنغافورة، 18 في تايلند، 17 في ماليزيا، 14 في الهند، 14 في الفيليبين، 4 في بقية دول الأمريكيتين، و2 في أندونيسيا.
- لكنّ إعادة هيكلة سلسلة إمداد "أبل" بعيدا عن الصين، بعد أن ترسّخت قواعدها هناك لمدةّ تقارب الـ 15 عاما، وبعد أن أثبتت فاعليّة وكفاءة عالية للغاية، لن تكون عمليّة سهلة وبدون مخاطر. فالبلدان التي تُخطّط الشركة لنقل جزءٍ من عمليّات التصنيع إليها كفيتنام والهند، لا تحظى بالمزايا التي تمتلكها الصين على صعيد البنية التحتيّة وتكامل سلسلة الإمداد (غالبية إن لم يكن كل مكونات "الآيفون" بما فيها المواد الخام متوفرة في الصين ولا حاجة لاستيرادها من الخارج) والأهم من ذلك كلّه هي خبرات العمّال الصينيين العميقة في المجال وهي أثمن ميزة تمتلكها الصين في هذا الصدد. وحسبنا أن نعرف هنا بأنّ شركة "أبل" أرسلت طواقم من الفنيين الصينيين لتدريب العمال الهنود على صناعة مكوّنات "آيفون"، وأنّه في احد المصانع المختصة بتصنيع الغلاف الخارجي للهاتف، فإنّ 50% منها لم يكن مُطابقا للمواصفات. مشكلات الجودة هذه وغيرها من المشكلات الهيكلية التي تعاني منها الهند هي ما يدفع الكثير من المراقبين للقول بأنّ هدف تصنيع 25% من إجمالي إنتاج "آيفون" في الهند ليس واقعيا، وأنّ عمليات الإنتاج هناك ستكتنفها الكثير من التأخيرات.
- التحدّي الذي يواجه شركة "فوكسكون"، وهي الشركة التايوانيّة الصينيّة المسئولة فعليّا عن تجميع 70% من أجهزة "آيفون" المُنتجة سنويا، هو كيفية جعل عمليّاتها في الهند أقلّ تكلفة، خاصّة وأنّها لا تستطيع هناك بناء شيء شبيه بـ "مدينة الآيفون" التي شيّدتها في مدينة تشنغتشو في الصين. وحتى نستوعب الأمر أكثر، فإن هذه المدينة هي شيء أقرب إلى الثكنة العسكريّة، وقد بُنيت بجانب مصانع الشركة، ويعيش فيها 300 ألف عامل وتستطيع إنتاج 500 ألف جهاز "آيفون" يوميّا. لا تمنح هذه المدينة للشركة مزايا "اقتصاديّات الحجم" التي تؤدّي لتقليص التكلفة فحسب، بل تمنحها أيضا مرونة كبيرة في التغيير بين خطوط الإنتاج المختلفة بسرعة كبيرة، فنظرا لوجود العمّال المهرة بهذه الأعداد الكبيرة بجانب المصانع، فإنه يمكن استدعاء الآلاف منهم في غضون وقتٍ قياسيّ -على طريقة استدعاء جيش الاحتياط- من أجل تنفيذ مهمّات تصنيعيّة بعينها. أما تجربة الشركة في الهند، ورغم أنها جرت على نطاقٍ أضيق بكثير، فقد اكتنفتها الكثير من الصعوبات، حيث رفضت أعداد كبيرة من العمال الهنود ترك قراها أو مدنها للعيش في المُجمعات التي أسستها الشركة، وهو ما اضطرها لاستئجار باصات لنقل العمّال يوميا من قراهم إلى المصانع في رحلات طويلة.
- رغم كلّ المشكلات الهيكليّة التي تعاني منها الهند وفيتنام، والتي لا تؤهلهما حتما لمنافسة الصين في المستقبل القريب، إلا أنه يصعبُ الإنكار أنّ البلدين سيكونان من بين أكبر الرابحين من عمليّات نقل سلاسل إمداد "أبل" وغيرها من الشركات التقنيّة خارج الصين. وقد تضاعف عدد العاملين في صناعة الإلكترونيّات في فيتنام أربع مرّات منذ العام 2013 حتى عام 2022 ليصل إلى 1.3 مليون عامل. بينما في الهند، خلق قطاع الإلكترونيّات ما يُقارب من مليون وظيفة مباشرة وغير مباشرة منذ العام 2018. الأرقام الفيتناميّة فاجأتني بشدّة، فنحن نتحدث عن بلدٍ كان حتى وقتٍ قريب واحدا من أفقر البلدان العالم ولا يختلف في سماته عن الكثير من بلدان عالمنا العربي، وقد خرج، علاوة على ذلك، من حربٍ مُدمّرة امتدّت لعقدين مع أعتى قوّة في العالم، لكنّه استثمر في البنى التحتيّة والتعليم خلال السنوات الماضية وأطلق إصلاحا شاملا لمؤسساته واستطاع أن يحجز لنفسه مكانة على الخارطة الاقتصادية العالميّة. المأساة في عالمنا العربيّ أنك لم تستطع أن توفر عوامل الاستدامة لنموذج "رأسمالية الدولة" القريب من الاشتراكيّة والذي كان يوفر مستويات معقولة من الوظائف والمساواة، وعندما دخلنا العصر النيوليبراليّ فإنّك لم تستطع أيضا أن تنخرط في الترتيبات الرأسماليّة الدولية وأن تحصل ولو على حصّة صغيرة من الفرص الهائلة التي وفرتها حركة العولمة وتطوّر التكنولوجيا.
(Visited 842 times, 1 visits today)