كانت أوّل سيارة ابتاعها والدي، حال عودتنا لغزّة، سيّارة "سوبارو" اليابانيّة موديل العام 1993، وقد كان هذا الطراز بالإضافة للطرازات الثمانينيّة الأقدم، الأكثر انتشارا في شوارع القطاع في زمن التسعينات إلى جانب سيّارات الأجرة الصفراء من نوع "مرسيدس" وسيّارات مُطاردي الانتفاضة الأولى من طراز "بيجو 504".
الجيل القديم من "سوبارو" دخل إلى غزة على الأرجح بشكلٍ رسميّ عبر المعابر الإسرائيليّة وقد كانت تُميّزه لوحات التسجيل الخضراء، أما الجيل الأحدث، فقد سَرق غالبيّة سيّاراته لصوصٌ فلسطينيّيون مُتخصّصون من شوارع المدن الإسرائيليّة، وكان يتميّز بلوحات تسجيلٍ خاصّة، ولطالما حاول سائقو هذا الجيل تلافي الحواجز الإسرائيليّة في غزّة خشية مُصادرة سيّاراتهم وإعادتها إلى إسرائيل مرّة أخرى.
انتشار "سوبارو" على هذا النطاق الواسع في غزّة دونا عن الطرازات الأخرى لم يأتِ من الفراغ، بل إنّ له أصول قديمة في صلب تاريخ العلاقة بين كبريات شركات السيّارات اليابانيّة وإسرائيل. فمنذ العام 1951، أي حين أُنشأ مكتب المقاطعة العربيّ لإسرائيل في دمشق، اتّفقت الدول العربيّة على مقاطعة الشركات الأجنبيّة التي لها صلاتٌ تجاريّة مع إسرائيل من أيّ شكل (يُسمّى هذا الإجراء بـ "المقاطعة من الدرجة الثانية"). ولمّا كانت أسواق المنطقة العربيّة، وتحديدا أسواق الخليج العربيّ بعد الطفرة النفطيّة تُمثّل سوقا كبيرا لشركات السيّارات اليابانيّة، فقد التزمت الشركات الكبرى منها ("مازدا"، "نيسان"، "ميتسوبيشي"، "تويوتا" و"هوندا") بمعايير المقاطعة العربيّة خشية من خسارة مبيعاتها في هذه الأسواق، ورفضت على الدوام طلبات الاستيراد الإسرائيليّة.
"سوبارو" لم تكن تبيع سيّارة واحدة خارج اليابان حتّى أواخر الستّينات، ولم تكن كشركة متواضعة في وارد مُزاحمة الكبار على حصّة في الأسواق العربيّة، ولذلك فهي لم تهتم بأمر المقاطعة كثيرا، وكانت بالتالي أوّل سيّارة يابانيّة تدخل إلى السوق الإسرائيليّ ومنها إلى قطاع غزّة، وتبعها على نفس الطريق شركتان صغيرتان هما "ديهاتسو" و"سوزوكي" في أواسط الثمانينات. لو لم يوقّع اتّفاق "أوسلو" لظلّت "سوبارو" على الأرجح السيّارة العائليّة الأكثر شعبيّة في غزّة بحكم الضرورة، لكنّ الاتّفاق مهّد الطريق للدول العربيّة لإرخاء قيود المقاطعة (وهذا الجانب الكارثي فيه قلّما يتم التحدّث عنه أو حتّى الإشارة إليه)، وقد أعلنت دول الخليج العربيّ رسميّا في العام 1994 إنهاء المُقاطعة من الدرجة الثانية، فاتحة السوق الإسرائيليّ للمئات من الشركات الأجنبيّة وعلى رأسها شركات السيّارات اليابانيّة الكبرى.
وهكذا تعرّفت شوارع غزّة أخيرا على الأنواع الأخرى من المركبات اليابانيّة والكوريّة المُختلفة، ولكن دون أن يؤثّر هذا على مكانة "سوبارو" الأثيرة في قلوب جيلٍ كاملٍ لم يكن يعرف أنّ تورطه في حبّ هذه المركبّة كان مُجرّد سرابٍ خادع يُخفي وراءه قصّة سياسيّة بامتياز.