نُشرت في مُلحق "السفير العربي" في 11 شباط/فبراير 2016
عندما اكتُشف الحقلان، «تامار» و«ليفياثان»، قُبالة سواحل حيفا على البحر الأبيض المتوسط عامي 2009 و2010، سادت في إسرائيل موجة من الحبور والارتياح استبشاراً بمستقبلٍ تملأه وعود الرفاهيّة الزاهية. فبفضل هذه الاكتشافات، انتقلت إسرائيل إلى وضعٍ جديد لم تعد مُضطرة فيه للاعتماد بشكلٍ كامل على مصادر الطاقة الخارجيّة. إذ ستوفّر لها احتياطيّات الغاز المُكتشفة حديثاً الفرصة لتغطية احتياجاتها الداخليّة لبضعة عقودٍ قادمة، كما أنّها ستمنحها القدرة على تصدير الفائض منها إلى أسواق مُختلفة وتوفر لخزينتها الماليّة مصدر دخلٍ بمليارات الدولارات.
الثروة والقوة
ولأنّه لا انفصال بين الطاقة والسياسة بوصفها فنّ امتلاك القوّة وإدارتها، فإنّ الاكتشافات البحريّة الإسرائيليّة بشّرت أيضاً بتحوّل في البيئة الاستراتيجيّة في المنطقة، وفي شكل وطبيعة العلاقات بين بلدانها، وموقع إسرائيل ودورها في هذه العلاقات. فإسرائيل التي كانت حتّى وقتٍ قريب تستورد الغاز المصري لتشغيل محطّات توليد الكهرباء، غدت بعد اكتشاف الحقلين أحد الأطراف المُرشّحة للعب دورٍ أساسيّ في شبكة إمدادات الطاقة في المنطقة، وتحديداً لتلك الدول التي تُعاني من ارتفاعٍ مُطرد في مستويات الاستهلاك مثل مصر والأردن والمناطق الفلسطينيّة المُحتلّة.
ولأنّه يصعب تجاهل الميزات التي يتمتّع بها الغاز كمادة عضويّة، وأهمّها أنّه مولّد رخيصٌ للكهرباء، ما يعني قدرته على تقليص التكاليف اللازمة لتشييد الصناعات كثيفة الاستخدام للطاقة، مثل الألمنيوم والإسمنت والبتروكيماويّات، ومنحها مزايا تصديريّة تنافسيّة، فإنّ ثروة الغاز الإسرائيليّة قد تفتح الباب أمام إسرائيل لتصبح مركزاً تصديرياً لسلع مختلفة لأسواق المنطقة لا للكهرباء فحسب.
تحكّم إسرائيل بإمدادت الغاز أو بجزء منها في المنطقة يعني بشكلٍ أو بآخر تزويدها بحوافز جديدة لتوسيع هيمنتها السياسيّة والأمنيّة وتعزيز قدرتها على فرض الوقائع التي تناسب أهدافها البعيدة، ومدّها، علاوة على ذلك، بأوراق قوّة لم تكن تمتلكها من قبل. ولقد فهمت النخبة الإسرائيليّة هذا الدرس وبدأت بالتخطيط على أساسه، ولم يكن من الغريب بالتالي أن يتحوّل موضوع الغاز خلال السنوات الماضية إلى هاجسٍ كبير لهذه النخبة بمستوياتها السياسيّة والأمنيّة والعسكريّة، وأن يغدو مجالاً حيويّاً لديبلوماسيّة تجري وراء الأبواب المُغلقة مع دول المنطقة المعنيّة، وبتدخّل أميركيّ حثيث، بهدف وضع رأس الجسر لمشروع تسويق الغاز الإسرائيليّ إقليميّاً بكلّ المكاسب الاستراتيجيّة التي سينطوي عليها كما يراها الإسرائيليّون.
محددات معقدة الاستفادة
لكنّ التسليم بهذا المقدار من التحوّل في علاقات القوّة والنفوذ في المنطقة بعد اكتشافات الغاز الإسرائيليّة، لا يعني بالضرورة أن إسرائيل ستستطيع استغلال هذا الموقف لتحقيق مآربها كلّها بسهولة. من هُنا، يتطلّب فهم هذا التحوّل بشكلٍ واضح وتقدير أبعاده الكاملة، الأخذ بعين الاعتبار للمُحدّدات السياسيّة والتجاريّة والتقنيّة والجغرافيّة التي تُحيط به. فما هي طبيعة هذه المحدّدات؟ ولماذا تبدو أكثر تعقيداً وتشابكاً في الحالة الإسرائيليّة؟ وهل يُمكن القول إنّ اكتشاف الغاز الإسرائيليّ بالنتائج التي ترتّبت عليه كان بمثابة «ورطة» لإسرائيل في بعض الجوانب، بطريقة أحبطت التوقّعات المتفائلة التي كانت النخبة الإسرائيليّة تُبشّر بها وتُضخمها عندما اكتُشف الحقلان الكبيران؟
هُناك ثلاثة مستوياتٍ أساسيّة تتجسّد فيها هذه المُحدّدات بشكلٍ خاص:
الأوّل، المستوى القانوني والتقنيّ. فإسرائيل التي لم تطوّر صناعة نفطيّة محليّة مُتقدّمة لم يسعها مُراكمة خبرات قانونيّة ومُؤسسيّة وبشريّة تُؤّهلها للتعامل مع هذا النوع من المواضيع بتشعباته التقنيّة الكثيرة. هكذا، شكّل اكتشاف الغاز بكميّات تجاريّة كبيرة نسبيّاً مفاجأة خلقت حالة من التخبّط والتوتّر داخل المؤسّسة الإسرائيليّة التي عجزت حتّى الآن عن صياغة سياسة طاقة مستقرّة وواضحة وذات مصداقيّة. فبعد تشكيل لجنتين حكوميّتين لهذا الغرض، واشتعال الأزمة القانونيّة التي نشبتْ على إثر استقالة ديفيد غيلو رئيس لجنة مكافحة الاحتكار في نهاية العام 2014، إثر مُطالبته بتفكيك كارتل شركات الطاقة الذي يُدير «تامار» و «ليفياثان» وجعل سوق الغاز المحلّي أكثر تنافسيّة، لجأ نتنياهو لحيلة مُدبّرة للالتفاف على القوانين، من خلال تقلّده لمنصب وزير الاقتصاد علاوة على رئاسته الحكومة، وتوقيعه على إطار قانونيّ جديد لتنظيم صناعة الغاز تحت سلطة البند 52 من «قانون النفط والغاز الإسرائيلي» الذي يُستخدم لأوّل مرّة في تاريخ إسرائيل، والذي يُعطي السلطة للوزير المعني للموافقة على إطارٍ تشغيليّ يمنح الشركات الخاصّة امتيازاتٍ احتكاريّة، طالما أنّ هذا التوجّه يصب في هدف حماية المصالح الأمنيّة لإسرائيل.
لكن، حتّى هذه الخطوة الاستثنائيّة لم تدشّن بداية جديدة لصناعة الغاز الإسرائيليّة، فقد قُدمت من معارضي الخطّة أربعة التماسات ستنظر فيها قريباً المحكمة العليا. وممّا لا شكّ فيه أنّ تواصل هذه الحالة من الفوضى وعدم اليقين في البيئة القانونيّة الإسرائيليّة قد ألقى بظلالٍ قاتمة على واقع ومستقبل الصناعة التي بات يُنظر لها من قبل مجتمع الأعمال العالميّ على أنّها غير جاذبة استثماريّاً ومليئة بالمخاطر، ووضع المشاريع الجديدة، وعلى رأسها استكمال تطوير حقل «ليفياثان» المُعوّل عليه في خطط التصدير المُستقبليّة في حالة تجميد. ولعلّ بيان شركة «نوبل إنيرجي» أحد مُحتكري الحقول الذي قالت فيه مؤخّراً أنّها لم تعد تثق بحكومة إسرائيل، هو أفضل مؤشّر على جوّ الإحباط السائد في إسرائيل بشأن هذا الملف.
المستوى الثاني هو الاقتصاد السياسي. الخلاف بين الأطراف ذات الصلة بموضوع الغاز ليس تقنيّاً فحسب. فعدم حسمه واستمرار الأخذ والجذب حوله يعكس بذاته تحوّله ــ بكلّ الرهانات الاقتصاديّة التي ينطوي عليها ــ إلى مسألة صراعٍ اجتماعي. فالرافضون لخطط نتنياهو يخشون أن يلد احتكار الغاز الحالي مجموعة جديدة من الاحتكارات في صناعات أخرى بسبب مركزيّة دور الطاقة في أيّ اقتصاد وارتباطه الحيوي بكلّ قطاعاته. وهذه المخاوف لها ما يسندها في الواقع، في ضوء الحماسة التي أبداها نتنياهو خلال العقدين الماضيين لتبنّي سياساتٍ اقتصاديّة نيوليبراليّة لعبت دوراً في تعميق سيطرة المجموعات الاحتكاريّة الكبيرة على مفاصل مّهمّة في بنية الاقتصاد الإسرائيلي (بشكلٍ خاص، أصبحت المجموعات الاستثماريّة العائليّة ملمحاً أساسيّاً في هذه الصورة، إذ تسيطر 20 عائلة على 50 في المئة من دخل أكبر 500 شركة في إسرائيل). وليس هذا فحسب، فموضوع الغاز قد يبقى على صفيحٍ ساخنٍ مستقبلاً بسبب الخلاف الذي ستولدّه الطريقة التي سيُعاد توزيع الفوائض الماليّة المُتحقّقة من بيعه، وإدارة مشكلات السياسة الاقتصاديّة الكليّة التي قد تتمخّض عنه (في اقتصاد تصديري كالاقتصاد الإسرائيلي، قد يؤدّي تدفق العملة الأجنبيّة على الخزينة إلى زيادة سعر صرف العملة المحليّة والتأثير بشكل سلبيّ على تنافسيّة الاقتصاد ككل فيما يُعرف بظاهرة «المرض الهولندي»).
المستوى الثالث هو المستوى العسكري. فقد أدركت النخبة الإسرائيليّة أنّ استغلال ثروة الغاز تجاريّاً غير ممكن عمليّاً بدون أن تكون حقول الغاز الإسرائيليّة مُؤمّنة أمنيّاً وعسكريّاً، وهو ما فرض تحديات جديدة أدخلت المؤسّسة العسكريّة خلال السنوات الماضية في ورشة محمومة للاستثمار في هذا الهدف عن طريق شراء سفنٍ حربيّة جديدة من ألمانيا وتزويدها بنسخة مُعدّلة من نظام «القبّة الحديدية» لاعتراض الصواريخ، وتدريب وحدات كوماندوس جديدة من نخبة الجيش لحماية منصّات الغاز، وتطوير أنظمة الأمن الرقمي وجمع المعلومات، بل واستحداث أسلحة جديدة مثل صاروخ «باراك 8» الذي أجرت إسرائيل تجربة حديثة عليه، أملاً في أن يُقدّم في السنوات القادمة حلاً نموذجياً للخطر الذي يُمثّله صاروخ «ياخونت» الروسي، الأرض ـ بحري، والذي يُعتقدُ أنّ حزب الله يمتلكه. وعلاوة على ذلك، ينطوي التهديد العسكريّ هذا على كُلفة تجاريّة حتّى في أوقات الهدوء، لأنّ المموّلين لمشروعات الغاز سيطلبون دائماً فائدة أعلى تعوّضهم عن المخاطر الأمنيّة والسياسيّة المُحتملة. هذه المُستجدّات تشي بأنّ موضوع الغاز بات يُمثّل شكلاً من أشكال الصداع للمؤسّسة العسكريّة، ليس لأنّه يفرض عليها التأهب بشكل دائم وتجنيد موارد بشريّة وماليّة تقنيّة جديدة ومُكلفة فحسب، بل لأنّه يضعها، لأوّل مرّة ربما، أمام سيناريو تكون فيها ثروتها الطبيعيّة التي تعتمد عليها لتشغيل المصانع والسيّارات وإضاءة المنازل وملء الخزينة بالعملة الصعبة.. تحت تهديد عسكريّ مباشر وفي أيّ لحظة غير متوقّعة.
.. والصعيد العالمي
إذا كانت هذه هي المُحدّدات المتعلّقة بإسرائيل، فهناك مُحدّدات أخرى تعمل على نطاق أوسع لكنها قد تضع هي الأخرى عقبات جديدة في وجه المشروع الإسرائيلي. إنّ سوق الطاقة العالميّ يمر اليوم بتحوّلات مهمّة أبرزها الوفرة الكبيرة في المعروض من الغاز الرخيص، وهذا يفرض على إسرائيل خياراتٍ محدودة عندما يتعلّق الأمر بالتصدير، خاصّة أنّ الاستثمارات في محطّات إسالة الغاز وأنابيب نقله مُكلفةٌ للغاية. ويواجه مشروع تسويق الغاز الإسرائيليّ لأوروبا بشكل خاصٍ، بالإضافة للأعباء الماليّة للإسالة والنقل، بعض العوائق السياسيّة والجغرافيّة مثل الصعوبة التقنيّة التي يتضمنها مدّ أنبوب تحت البحر، والحاجة لإيجاد توافق سياسيّ من نوع ما بين تركيا وقبرص واليونان ليصبح هذا السيناريو واقعاً عمليّاً.
هذه الاعتبارات تجعل من أسواق مصر والأردن وفلسطين، وبرغم أنّها لا تُشبع النهم الإسرائيلي بالكامل، الأسواق الوحيدة المتوفّرة الآن لتصريف جزء من الغاز الإسرائيلي. ومع أنّ اكتشاف حقل «زوهر» قبالة السواحل المصريّة مؤخّراً مثّل ضربة جديدة لطموح إسرائيل، إلا أنّ مصر تبقى خياراً مثاليّاً بكلّ الأحوال لأنّها يُمكن أن تتحوّل لمنصة لتصدير الغاز الإسرائيليّ لأوروبا من خلال مرافق الإسالة الموجودة في «إدكو» و «دمياط» والمملوكة لشركات أجنبيّة.
معضلة إسرائيل
إنّ اعتماد إسرائيل التاريخيّ على مصادر طاقة خارجيّة كان مصدراً لتوتّر على كلّ المستويات، مردّه محاولة التوفيق الدائمة بين مهمة تأمين هذه الموارد لكيانٍ يفتقر لها بشدّة، ومهمّة الحفاظ على مناعة هذا الكيان وقدرته على التوسّع والاحتلال في الوقت نفسه. فقد ارتبطت قدرة إسرائيل على تأمين احتياجاتها من الطاقة تاريخيّاً بتمدّد نفوذها العسكريّ والسياسيّ والأمنيّ، كما يتضح في اعتمادها لفترة طويلة على واردات النفط من إيران في عهد الشاه، واستفادتها من الحقول التي سيطرت عليها في سيناء في أعقاب حرب العام 1967، وحصولها لاحقاً على مزايا تفضيليّة لاستيراد النفط من مصر في مرحلة ما بعد توقيع اتّفاقيّة كامب ديفيد للسلام.
لذلك، يُشكّل اكتشاف الغاز بحدّ ذاته تحدياً استراتيجيّاً جديداً يتطلّب تجاوزه إعادة تكييف النموذج الإسرائيليّ للعلاقة بين الطاقة والأمن، ليس على مستوى التصوّرات فحسب، وإنّما على صعيد البنى المؤسّساتيّة المُختلفة والمصالح الاجتماعيّة التي تقف خلفها أيضاً. فإسرائيل تعيش اليوم ما يُشبه الطور الانتقاليّ من كيانٍ يعتمدُ بالكامل على مصادر طاقة خارجيّة يسخّر نفوذه العسكريّ والأمني من أجل تأمينها، إلى كيانٍ يحوز ثروة طبيعيّة كبيرة يُخطّط لاستخدامها لأهداف توسّعه السياسيّ العسكريّ، أي أنّ الطاقة لم تعد هدفاً فحسب، بل وأداة من أدوات فرض القوّة والنفوذ. هذه العمليّة الانتقاليّة، وبغض النظر عن نتائجها، هي ما يجعل القيود على صناعة الغاز الإسرائيليّة أكثر تعقيداً، ويضع إسرائيل في مواجهة تحديات نوعيّة قد تحبط الفرص السياسيّة والاقتصاديّة التي بشّرتها بها الاكتشافات أوّل الأمر، ما سيزيد من وطأة خيبتها المستمرّة مُذّاك.