يُعدّ هذا البوستر أشهر مُلصقٍ في تاريخ المملكة المتحدة، وقد انتشر بكثافة خلال الحرب العالميّة الأولى ولا يزال يُطبع حتى يومنا هذا، ويظهر فيه اللورد هوراشيو كيتشنر بشاربه الأسطوريّ وتعبيرات وجهه الحاسمة وهو يدعو الشباب البريطانيّ للالتحاق بالجيش بعد استلامه منصب وزير الحربيّة في أغسطس/آب من العام 1914.
اللورد كيتشنر هو أهمّ وأعظم جنديّ في نظر الإنجليز عبر التاريخ الحديث، وقد لعب أدوارا محوريّة كإمبرياليّ عتيد في تاريخ الإمبراطوريّة البريطانيّة وحملاتها التوسعيّة، وكان تأثيره طاغيا على الشباب، واستطاع من خلال تأثيره هذا ومهابته الكبيرة أن يبني جيشا كبيرا من المتطوّعين بعد أن كانت وزارة هربرت إسكويث تُقدّر أنه يُمكن حسم الحرب في غضون وقتٍ قصير من خلال الجيش المحترف فحسب.
يُنسب لكيتشنر الفضل في إعادة تنظيم الجيش الهنديّ على أسسٍ حديثة وذلك بعد التمرّد الهنديّ الكبير في أواسط القرن التاسع عشر. لكنّ مأثرته العظيمة، بحسب المخيال الإمبرياليّ، تتجلّى في هزيمته للحركة المهديّة في السودان في نهايات القرن ذاته، حتّى أن اسمه اقترن بعاصمة السودان، حيث سُمي بارونا تحت اسم "كيتشنر الخرطوم" تقديرا لإنجازاته العسكريّة في بلاد النيلين.
ويُمكن القول أنّ اللورد كيتشنر كان واحدا من أبرز آباء الحداثة السودانيّة، فقد قام في أعقاب هزيمة المهديين في معركة أم درمان عام 1898، بإعادة بناء وتصميم العاصمة الخرطوم، تاركا بصماته في تخطيط المدينة حتى يومنا هذا. وفي عام 1902، أسس كيتشنر كليّة غوردون التذكاريّة التي ستُخرّج عدّة أجيالٍ من قادة الحركة الوطنيّة السودانيّة ومثقفيها وساستها، وذلك قبل أن تتحوّل إلى "جامعة الخرطوم" بعد استقلال البلاد في 1956.
قبل تسلمه منصب وزير الحربية كان اللورد كيتشنر حاكما عامّا لمصر، وقد أُبقي منصبه في القاهرة شاغرا على أمل أن يعود إليه بعد انتهاء الحرب. فبسبب طول السنوات التي قضاها في الخدمة الإمبرياليّة خارج إنجلترا، فقد كان يشعر بالغربة في وطنه ويتحيّن الفرصة للعودة إلى المستعمرات في أسرع وقت. أثناء خدمته في القاهرة والخرطوم، ربّى كيتشنر مجموعة من العسكريين الذين سيشكّلون لاحقا أركان "المكتب العربي" الذي أدار العمليّات الاستخبارية البريطانيّة في المنطقة والذي لعب أيضا أدوار مهمّة في الترتيبات السياسيّة التي أعقبت الحرب.
ورغم أنّ التفاهمات العربيّة البريطانيّة تقترن دائما باسم السير مكماهون الذي خلف اللورد كيتشنر في منصبه بالقاهرة، إلا أنّ الأخير كان في الواقع الأبّ الروحيّ لفكرة الوعود البريطانيّة التي أُعطيت للأسرة الشريفيّة في الحجاز، وكان تواصله مع الحسين شريف مكّة سابقا على تواصل مكماهون معه.
وقد قدّر كيتشنر أنّ الأتراك، ومن ورائهم الألمان، سيستغلّون عامل الدين الإسلاميّ لإثارة القلاقل لبلاده التي كان أكثر من نصف رعاياها من المسلمين آنذاك، وارتأى لاحتواء هذا الأمر أن تقوم بريطانيا بإيجاد خليفة عربيّ في مكّة تنعقد له السلطة الروحيّة، وأن تحكم بريطانيا آسيا العربيّة من خلف هذه الواجهة، حيث كان كيتشنر على ما يبدو يطمح لتشكيل "كومونولث عربيّ" بعد الحرب يكون هو حاكمه المطلق. إلا أنّ القدر باغته عندما انفجر لغمٌ ألمانيّ بالسفينة التي كانت تُقلّه في مهمّة رسميّة إلى روسيا في صيف 1916، لتُطوى معه مسيرة رجل ارتبطت حياته بمسيرة الإمبراطوريّة أكثر من أيّ إنجليزيّ آخر.