• إن وجود الموارد الطبيعيّة من نفطٍ وغاز لدى بلدٍ معين لا يعني شيء بالمعنى العملي إذا لم يكن هناك إطار قانوني وماليّ ينُظّم العلاقة بين الحكومة والمطوّرين المحتملين لهذه الموارد. وفي عالم الصناعة، يُسمّى هذا الإطار بـ "النظام المالي" (Fiscal Regime)، وهو يستند في الغالب إلى قانونٍ أو مجموعة من قوانين تُحدّد بدقّة التعريفات الخاصّة بعمليّة التعاقد بين الحكومة والشركات كما الواجبات المترتبة على الطرفين وتحديدا على الطرف الأخير. ويُحدّد هذا الإطار، على سبيل المثال، الأعمال التي يجب أن تقوم بها الشركات خلال فترة الاستكشاف وحجم الاستثمارات التي ينبغي لها إنفاقها أثناء هذه الفترة والحد الأدنى للآبار التي يجب عليها حفرها بالإضافة لواجباتٍ أخرى تتعلّق مثلا بتحقيق معايير الصحّة والسلامة والالتزام البيئي وتدريب العاملين المحليين وتفكيك المرافق الإنتاجيّة بعد انتهاء دورة حياة المشروع من بين واجباتٍ أخرى كثيرة. وتكمن أهميّة وثيقة النظام الماليّ في أنّها تُقسّم بشكلٍ واضح الالتزامات والعوائد الماليّة لكلّ طرفٍ من أطراف التعاقد والآليات التي ستخضع لها عمليّة التقسيم هذه. وبدون وجود هذه الوثيقة، فإنّ الموارد لن تلقى حظّها من الاستخراج والاستغلال، لأنّ شركات النفط والغاز ستكون أميل دائما إلى البيئة الآمنة على المستوى القانونيّ والمالي، خاصّة وأننا نتحدّث هُنا عن صناعة تنطوي على قدرٍ كبيرٍ من المخاطرّ الماليّة والتقنيّة.
  • يُمكن اعتبار وثيقة "النظام المالي" وثيقة سياسيّة بامتياز وذلك لسببين. الأوّل أنّ هذه الوثيقة تستند دائما إلى جملة من التعريفات والقوانين المعمول بها في الدولة المعنيّة وعلى رأسها الدستور الذي يؤكّد الحقوق السياديّة للدولة على ثرواتها الطبيعيّة ويرسم الحدود الجغرافيّة التي تقع هذه الموارد في نطاقها، أكان ذلك برّا أم بحرا. ولهذا السبب، فإنّ مسائل ترسيم الحدود تُعدّ مسألة حيويّة للغاية عندما يتعلّق الأمر بتطوير مشروعات النفط والغاز، ويمكن للخلافات حول الحدود البحريّة والبريّة بين الدول أن تُعطّل انطلاق هذه المشروعات لردحٍ من الزمن، والأمثلة أمامنا في مياه الخليج العربيّ كثيرة ومتنوّعة. أما السبب الثاني فهو يتعلّق بحقيقة أنّ هذه الوثيقة تعكس بشكلٍ ما ميزان القوى بين الحكومة والشركات التي ستطوّر الموارد. ففي زمن احتكار الشركات الغربيّة الكبرى لإنتاج النفط في بدايات القرن العشرين، أي حين كانت العلاقة بين الدول والشركات مُختلّة للغاية لصالح الأخيرة، وتحديدا في البلدان النامية، فإنّ اتفاقيّات الامتياز كانت تُعطي للشركات امتيازاتٍ هائلة هي أقرب للحقوق السياديّة بينما تمنح للحكومات الفُتات (وعلى سبيل المثال، بلغت مساحة الامتياز الذي حصلت عليه الشركة الإنجلوفارسية في إيران لصاحبها وليام إي دارسي عام 1901 حوالى 1.2 مليون كم مربّع، أي ثلاثة أرباع مساحة إيران في الوقت الحالي). وفي أعقاب أزمة تأميم النفط وإسقاط حكومة الدكتور محمّد مُصدّق، بدأت العقود التي تنظم العلاقة بين الطرفين تتحسّن لصالح الحكومات الوطنيّة مع الشروع بتطبيق مبدأ 50:50 لتقسيم الأرباح. ثم جاءت موجة التأميمات في الستينيّات والسبعينيّات من القرن الماضي لتنقل العلاقة بين الحكومات والشركات إلى شكلٍ جديد. وقد اُستحدثت في ذلك الزمن اتفاقيات مشاركة الإنتاج (Production Sharing Agreement) الذي جرى أوّل تطبيق عمليّ لها في أندونيسيا، وهي ضربٌ من العقود يجعل الشركات المطوّرة تتحمل قدرا أكبر من المخاطرة مقابل استرداد ما أنفقته في حال نجاحها في تطوير الموارد وإنتاجها لاحقا، ويعدّ هذا النوع من العقود الأكثر انتشارا في مجال استخراج الغاز في البلدان النامية اليوم. وللتلخيص، فإنّ وثيقة "النظام المالي" هي بمثابة "بارومتر" يعكس مدى تساهل/صعوبة شروط الحكومة في تنظيمها لعمل شركات النفط والغاز وللعوائد التي ستحصل عليها من جرّاء أنشطتها الاستخراجيّة.
  • في حدود معرفتي، فإنّ السلطة الفلسطينيّة لا تمتلك نظاما ماليّا يُنظّم أنشطة شركات النفط والغاز وآليّات احتساب العوائد كالذي أشرنا إليه أعلاه لأسبابٍ لا تخفى على أحد. ومن هنا، فإذا ما جرى تطوير الحقل من خلال البوابة المصريّة -وهو الأرجح كما ذكرنا في السابق- فإن عقود مشاركة الإنتاج المصريّة ستكون على الأغلب القاعدة القانونيّة الماليّة التي سيجري تطوير الحقل وتقاسم عوائده الماليّة على أساسها، خاصّة أن الصيغة المطروحة لاستغلال الحقل بين الأطراف المعنيين تمنح لـ "إيجاس" دور المطوّر الرئيسي وبحصّة في العوائد أيضا. وتمتلك مصر -كما العديد من البلدان المنتجة للنفط والغاز في العالم النامي- نسخها الخاصّة من اتفاقيّات مشاركة الإنتاج لتنظيم عمل الشركات الأجنبيّة والمحليّة العاملة في قطاع النفط والغاز لديها. والنظام الماليّ في مصر مرنٌ نسبيّا، حيث أنّ شروط عقود المشاركة يُمكن أن تختلف تبعا لمنطقة الامتياز الممنوحة أو طبيعة الشركات التي ستطوّر الحقل ولاعتبارات أخرى، ويجب على البرلمان أن يُصادق على كلّ اتفاقيّة توقعها الحكومة مع الشركات في هذا الصدد لتصبح سارية المفعول. وبدون الدخول في التفاصيل القانونيّة والتقنيّة المتشعبة والكثيرة، فإنّ تقاسم العوائد بين الحكومة والشركات في ظلّ العقود المصريّة يجري على الأساس التالي:

- حصّة الحكومة Royalty: من حق الحكومة الحصول على نسبة 10% من الإنتاج على هيئة ملموسة، أي كمادة خام أكانت نفطا أم غازا طبيعيّا، أو على هيئة كاش يمثّل القيمة المالية لهذه الحصّة.

- استرداد التكاليف: يُمنح المطوّر الرئيسيّ للحقل الحق في تغطية كافة التكاليف الاستثماريّة والتشغيليّة للحقل من خلال اقتطاع ما نسبته 35-40% من الإنتاج الإجماليّ للحقل. ويستطيع المطوّر التصرّف بهذه الكميّة بحريّة مع مراعاة حقوق الشراء التفضيليّة الممنوحة للشركة القابضة المصريّة للغاز "إيجاس" لتغذية السوق المحلّي.

- تقاسم الإنتاج: بعد اقتطاع حصّة الحكومة واسترداد التكاليف، فإن ما يتبقى من الإنتاج يجري اقتسامه بين "إيجاس" والشركاء في  الحقل حسب النسب المتفق عليها في العقد، ويستطيع المطوّر أو الشركاء التصرّف بحصتهم مع مراعاة حقوق الشراء التفضيليّة الممنوحة للشركة القابضة المصريّة للغاز "إيجاس" لتغذية السوق المحلّي.

- الضرائب: يترتب على الشركات العاملة في أنشطة الاستكشاف والتنقيب عن النفط والغاز في مصر دفع ضريبة مقدارها 40.55% على أرباحها. وفي الكثير من العقود المصريّة، فإنّ "إيجاس" تقوم بدفع قيمة الضريبة من حصتها من الإنتاج بالنيابة عن المطوّر الرئيسيّ (لنتذكر هنا أنه في حالة غزّة "مارين" فإنّ "إيجاس" هي المطوّر الرئيسيّ Contractor وأنها في نفس الوقت الشركة التي تنوب عن الحكومة بوصفها الشركة المسئولة عن أنشطة التنقيب وإنتاج ونقل الغاز في مصر).

  • إنّ تطوير الحقل تحت مظلّة شركة "إيجاس" المصريّة للغاز يعني أنّ هنالك احتمالية لتصدير الغاز المُنتج من "غزّة مارين" إلى الأسواق العالميّة وذلك بعد تسييله في محطّات الإسالة المصريّة في إدكو ودمياط على ساحل البحر الأبيض المتوسّط. ومن غير الواضح حتى الآن إذا كان جزءٌ من الغاز المُنتج سيوجّه إلى غزّة للمساعدة في علاج أزمة الكهرباء وذلك من خلال عبر أنبوب أرضي أم لا. إذ ربما تنشأ صيغة تقضي مثلا باستخدام جزءٍ من عوائد مبيعات الغاز لشراء الكهرباء من مصر أو إسرائيل، أو حتى شراء الغاز من الحقول الإسرائيليّة كـ "ليفياثان" و"تامار" وتحويله إلى غزّة من خلال أنبوب مرتبط بالشبكة الإسرائيليّة. وفي واقع الأمر، فقد سبق لشركة غزّة لتوليد الكهرباء أن وقعت مذكرة تفاهم مع السفير القطريّ في غزّة، محمّد العمادي، في كانون أول/ديسمبر 2021، تموّل اللجنة القطريّة لإعادة إعمار غزّة بموجبه إنشاء خط أنابيب من الحقول الإسرائيليّة إلى محطّة كهرباء غزّة بقيمة 60 مليون دولار. وتُشير الخرائط التي أعدتها شركة أنابيب الغاز الإسرائيليّة إلى أن هنالك مسارا قد جرت الموافقة عليه فعلا لنقل الغاز من الشبكة الإسرائيليّة إلى محطة الكهرباء في غزّة من خلال أنبوب يدخل من شرق غزّة وصولا إلى المحطّة. وحتى تتضح الطريقة التي سيجري تطوير الحقل من خلالها والآلية التي سيستفيد قطاع غزّة عبرها من الحقل (أكان بالحصول على الغاز من الحقل عبر أنبوب قادم من مصر أو من خلال توجيه جزء من عوائده النقدية لشراء الغاز أو الكهرباء الإسرائيليّة أو الكهرباء المصريّة أو حتى توجيه هذه العائدات لمشروعات أخرى لا علاقة لها بالطاقة)، فإن هنالك حاجة ماسّة لعدم المبالغة في تقدير قيمة الغاز في الحقل أو العوائد الذي يمكن أن تأتي منه. فطبقا للحسابات التي أجريتها بالاعتماد على البروفايل الإنتاجي لـ "غزّة مارين" وأسعار الغاز في المنطقة، تبلغ القيمة السوقيّة الإجماليّة للحقل حوالى 4 مليارات دولار (وهذه القيمة ستكون أقل من ذلك لو أردنا الحصول على القيمة الحالية عند سعر خصم 10% مثلا). كما ستبلغ الحصّة التي سيحصل عليها صندوق الاستثمار الفلسطينيّ وشركة اتحاد المقاولين (وهما الشريكان الفلسطينيان في الحقل بحصّة إجمالية تبلغ 55%) حوالى مليار دولار خلال دورة حياة المشروع، بينما ستحصل الخزينة المصريّة على عوائد من الضرائب على المشروع تبلغ حوالى 2 مليار دولار، وعلى الأرجح ستحصل السلطة الفلسطينية على جزء من هذه الضرائب من مصر بعد إجراء مقاصة يتفق عليها الطرفان. وفي النهاية، فإن جميع هذه الأرقام قد تتغيّر في ضوء التغيرات المحتملة مستقبلا في حجم احتياطيات الحقل أو طرق تطويره أو الآلية التي ستُقسّم من خلالها عوائده، إذ أن الافتراضات التي استخدمتها هي افتراضات متحفظة للغاية على مستوى التكلفة والإنتاج بالنظر للتعقيد الكامنة في حالة "غزّة مارين" على كل المستويات.

-انتهى-

 

(Visited 43 times, 1 visits today)