• من الناحية العمليّة، وفي ضوء ما هو قائمٌ من بنى تحتيّة للطاقة في منطقة شرق المتوسّط، فإنّ حقل "غزّة مارين" يُمكن تطويره من خلال ثلاثة طرق. الطريق الأوّل هو تطوير الحقل عبر نظام إنتاج تحت الماء (Subsea Production System) مُتّصلٍ بأنبوب إلى شاطيء غزّة ومنها إلى محطّة توليد الكهرباء الموجودة هناك، والتي صمّمت بالأساس للعمل بالغاز الطبيعي. الطريق الثاني هو تطوير حقل "غزّة مارين" بالاعتماد على مرافق إنتاج حقل "تامار" الموجودة قُبالة شواطيء عسقلان ومدّ أنبوبٍ من هناك إلى محطّات استقبال الغاز الإسرائيليّة في مدينة أسدود ومنها إلى غزّة عبر أنبوبٍ أرضي أو تحت مياه البحر. أمّا الطريق الثالث فهو تطوير الحقل من خلال ربطه بأنبوبٍ بمرافق الإنتاج الموجودة في المياه المصريّة بالقرب من الحدود البحريّة للقطاع أو مباشرة إلى شبكة نقل الغاز المصريّة في العريش مثلا. إنّ كل طريق من هذه الطرق سيكون له هيكل تكاليف استثماريّ وتشغيليّ مختلف عن الآخر، إلا أنّ هذه التكاليف، بغضّ النظر عن الطريق التطويري المتّبع، ستبقى في الحدود التي ذكرناها في المنشور السابق، قد تنقص قليلا أو تزيد قليلا حسب كل طريقة. كما أنّ السعر الذي سيُباع عنده الغاز الطبيعيّ المُستخرج من الحقل قد يختلف بنسبٍ طفيفة تبعا للطريق الذي سيطوّر من خلاله الحقل وللسوق الذي سيُباع فيه الغاز. وكقاعدة عامّة على مستوى العالم، يجري تسعير الغاز المُباع من خلال الأنابيب من خلال ربط سعره بأسعار خام "برنت" مع السماح بهامشٍ مئويّ هبوطا وصعودا لحماية البائع والمشتري من التقلّبات المُحتملة في أسعار النفط.
  • من الواضح أنّ الترتيبات السياسيّة والمعيشيّة التي جرت مناقشتها خلال السنتين الأخيرتين تنحو باتجاه الخيار المصريّ لتطوير الحقل. ففي شباط/فبراير2021 زار وزير البترول المصري طارق الملا رام الله على رأس وفدٍ من المسئولين المصريين، حيث جرى توقيع مذكرة تفاهم لتطوير حقل "غزّة مارين"، ووقع المذكرة من الجانب الفلسطينيّ محمد مصطفى رئيس مجلس إدارة صندوق الاستثمار ومن الجانب المصري مجدي جلال، رئيس الشركة المصريّة القابضة للغازات الطبيعيّة "إيجاس". وفي نهاية تشرين أوّل/أكتوبر 2022، أفادت تقارير صحافيّة أن مصر تمكّنت، بعد مفاوضاتٍ استمرّت لبضعة أشهر، من التوصّل لتفاهمٍ مع إسرائيل للموافقة على تطوير الحقل بحيث يُشرف الطرفان على عمليّة التطوير، على أن تكون شركة "إيجاس" المصريّة المطوّر الرئيسيّ للحقل بحصّة مقدارها 45% ضمن تحالف سيضمّ كلا من شركة اتحاد المقاولين العرب، وهي شركة عالمية يملكها رجال أعمال فلسطينيون، وصندوق الاستثمار الفلسطينيّ، حيث سيمتلك كلاهما حصّة إجماليّة مقدارها 55%. وقد نقلت التقارير في ذلك الوقت أنّ الاتحاد الأوروبي ضغط على إسرائيل من أجل الموافقة على تطوير الحقل بالنظر لتفاقم أزمة الطاقة الأوروبيّة بعد اندلاع الحرب الأوكرانيّة والحاجة للمزيد من الإمدادات من شرق المتوسّط. وفي حزيران/يونيو الماضي، بدأت القاهرة مباحثاتٍ مع الفصائل الفلسطينيّة في محاولة للتوصّل لاتفاق تهدئة طويل الأمد في غزّة، وقد كان ملف "غاز غزّة" على رأس جدول الأعمال. ومن غير المعروف حتى الآن ما إذا تمكّنت مصر فعلا من الوصول إلى تفاهمٍ مع الفصائل الفلسطينيّة، وعلى رأسها حركة "حماس" التي تُدير القطاع، للمساعدة في تطوير الحقل من خلال توفير بيئة من الهدوء الأمني مقابل الحصول على تسهيلات معيشيّة واقتصاديّة متنوّعة على مستوى الحركة التجاريّة ومشروعات البنيّة التحتيّة وغيرها من التسهيلات.
  • تتمثّل إشكاليّة "غزّة مارين" أنه يقع في منطقة تتكثّف فيها تعقيدات مختلفة على المستوى القانوني والسياسي والأمني. فالحقل يقع في مياه ليس لها حدودٌ متفق عليها بين الأطراف المعنيّة. فكما نعلم، رفضت إسرائيل على الدوام فكرة ترسيم الحدود، لأنها اعتبرت الفضاء الفلسطينيّ كلّه ببحره وأرضه وأجوائه مجالا لسيادتها المطلقة. ومن الواضح أن المفاوضات من أجل ترسيم الحدود البحريّة للقطاع مع مصر لم تصل حتى اللحظة إلى نتيجة حاسمة. وعلاوة على ذلك، فإنّ الحقل يقع قُبالة سواحل قطاع غزّة الذي انسحبت منه إسرائيل عام 2005، لكنّ القطاع يعتبر خاضعا حتى اللحظة، بحسب القانون الدوليّ، لقوّة الاحتلال العسكريّ الإسرائيليّ. وفي العام 2007، دخل الوضع القانوني والسياسيّ للقطاع مستوى أعلى من التعقيد، حيث قادت سيطرة "حماس" على القطاع إلى خلق وضعٍ يتميّز بازوداجيّة السلطة، فالقطاع من الناحية القانونيّة والدستوريّة يقع تحت مسئوليّة السلطة الفلسطينيّة، لكن "حماس" هي السلطة الحقيقيّة فيه. هذا الخليط المركّب من التعقيدات السياسيّة والقانونيّة، مُضافا إليها التعقيدات الأمنيّة المرتبطة بكون قطاع غزّة منطقة حروب دائمة، يعني أنّ تطوير الحقل قد لا يكون أمرا سهلا، حيث سيتطلبّ الأمر إنتاج تفاهمٍ شاملٍ وحقيقي وقابل للحياة حول هذه المسألة يُحقق للأطراف المختلفة مصالحها، حيث تريد إسرائيل الأمن وعودة جنودها الأسرى في غزّة، وتريد مصر الحصول على عوائد ماليّة من تصدير الغاز لأوروبا، وتريد السلطة عوائد الحقل من أجل دعم ميزانيتها الضعيفة، بينما تريد "حماس" أيضا حصّة من العوائد أو حلا لبعض الأزمات الإنسانيّة المتفاقمة في غزّة، إذ يصعب تخيّل تطوير الحقل واستخراج موارده بدون تفاهم معها.
  • هنالك واقعٌ جديدٌ بدأ بالتبلور في منطقة شرق البحر المتوسّط خلال السنوات القليلة الماضية وعنوانه السعي لتسوية نزاعات الحدود البحريّة بين الأطراف المُختلفة وخلق إطارات للتنسيق والتعاون والشراكة بين هذه الأطراف من أجل تسهيل تطوير واستغلال موارد الغاز الطبيعيّ الموجودة هناك. ففي تشرين الأول/أكتوبر2022، وقّعت حكومتا لبنان وإسرائيل اتفاقا لترسيم الحدود البحريّة بينهما، وهو الاتفاق الذي أتاح انطلاق الإنتاج من حقل "كاريش" في إسرائيل وفتح الباب، في الوقت نفسه، أمام تشكيل "كونسورتيوم" لبدء أعمال الاستكشاف والتنقيب في حقل "قانا" افي المياه اللبنانيّة. وتقوم إسرائيل وقبرص في الوقت الحالي بمفاوضاتٍ حثيثة من أجل حلّ النزاع الحدودي الطويل حول حقل "أفروديت" في المياه القبرصيّة، والذي اُكتشف نهايات عام 2011 ولم يجرِ تطويره حتى الآن بسبب امتداد جزءٍ منه إلى المياه الإسرائيليّة تحت اسم "إيشاي" وعجز الطرفين عن إيجاد صيغة مقبولة طوال هذه السنين لتقاسم عوائده. كما شهدت المنطقة في السنوات الأخيرة دخول لاعبين جدد ذوي وزنٍ كبير في عالم الطاقة مثل شركة "شيفرون" الأمريكيّة التي تعمل في حقلي "تامار" و"ليفياثان" وصندوق "مبادلة" الإماراتي الذي يمتلك حصّة في "تامار"، وشركة قطر للطاقة وشركة "توتال" الفرنسيّة اللتان اشترتا مؤخرا حصصا في حقل قانا اللبناني. وتلعب الدبلوماسيّة الأمريكيّة في هذا الإطار، من خلال مبعوث الإدارة آموس هوكشتاين، دورا حيويّا في عمليّة تطوير البنيّة التحتيّة السياسيّة هذه، وذلك من أجل خلق منصّة جديدة لتصدير الغاز لأوروبا وخاصّة بعد الحرب الأوكرانيّة وتعميق دور إسرائيل فيها، ومن أجل خلق قاعدة ماديّة للصفقات السياسيّة، حيث يرى بعض مسئولي الإدارة أن التخفيف من مشكلات الكهرباء في بلدان المنطقة الغارقة في الظلام قد يكون مدخلا مناسبا لفرض شروطٍ سياسيّة بعينها على الأطراف المعنيّين في هذه المنطقة تحت شعار "الكهرباء مقابل الهدوء".

يتبع...

 

(Visited 53 times, 1 visits today)