• يُمكن لنا تقدير إنتاج حقلٍ من الغاز الطبيعيّ وتكلفته الاستثماريّة الإجماليّة بشكلٍ قريبٍ من الدقّة حتى في ظل شحّ المعلومات المتوفرة عنه. أمّا الإنتاج، فبإمكاننا تقديره من خلال الاعتماد على أرقام الاحتياطيّات المُعلنة للحقل أو المواصفات الهندسيّة الخاصة بالمرافق المُزمع تشييدها فيه مستقبلا. وأمّا تكاليفه الاستثماريّة الإجماليّة، فيمكننا تقديرها من خلال اعتماد منهجيّة "المُناظر"، والتي تقوم ببساطة على اختيار حقلٍ شبيه بالحقل الذي نقوم بدراسته من ناحية الحجم والمواصفات الفنيّة والجيولوجيّة، ولكن تتوافر عنه معلوماتٌ أفضل، ومن ثمّ استخدام بياناته هذه لإجراء عملية معايرة وقياس لتقدير تكلفة الحقل الذي نعمل عليه. ونحن هُنا إنما نقوم بشيءٍ شبيه بما يفعله محللو الاستخبارات، حيث نجمع نتفا من المعلومات مهما كانت صغيرة ومتباعدة ونحاول ربطها ببعضها البعض ونستخدم معرفتنا التقنيّة للمجال -صناعة النفط والغاز في حالتنا هذه- من أجل استخلاص تقديراتٍ قريبة من الصحّة. وهذا الضرب من التحليل شائعٌ ومتجذّر وله قبول واسعٌ في أوساط العالم الماليّ والصناعيّ في كلّ مكان.
  • حقول الغاز الطبيعيّ لها سلوكٌ إنتاجيّ معياريّ معروف. قد يختلف هذا السلوك من حقل لآخر تبعا لطبيعة الجيولوجيا للحقل أو حجم الاستثمارات فيه أو مستويات الطلب على موارده أو طبيعة التكنولوجيا المستخدمة لاستخراج هذه الموارد، لكنّ هذا السلوك يبقى متشابها بشكلٍ عام في كلّ الحقول، ربما عدا حقول الغاز الصخريّ التي لها سلوكٌ مختلفٌ نسبيّا. فبعد الانتهاء من تطوير المشروع، يبدأ إنتاج الغاز بالتصاعد رويدا رويدا حتى يصل لذروته، وبعد ذلك يدخل الإنتاج مرحلة من الثبات النسبيّ تُسمّى بالـ Plateau، قبل أن يبدأ بالانخفاض بنسبٍ تتراوح بين 10-30% قبل الوصول لمرحلة النضوب. وفي هذا الصدد، فإنّ هنالك حاجة ماسّة لمعرفة طبيعة الاحتياطيّات التي نبني عليها تقديرنا. فالاحتياطيّات ليست صنفا واحدا، إذ أنّ هنالك احتياطيّات يُمكن استخراجها فعلا، وهنالك احتياطيّات قد لا يكون من المتاح استخراجها إما لغياب الجدوى الاقتصاديّة أو بسبب الافتقار للتكنولوجيا مثلا. وكقاعدة عامّة في حقول الغاز، فإنّ ما سنستخرجه قد يتراوح بين بين 70-75% من إجمالي الاحتياطيّات، لأنّ الضغط في الحوض الجيولوجي الذي يحتوي الغاز سوف يتناقص مع مرور الزمن ويمنع تدفّق المادة الخام بنفس قوّة المعدلات السابقة، الأمر الذي الذي يجعل المشروع غير مُجدٍ من الناحية التشغيليّة.

  • إذا طبّقنا المعايير أعلاه، وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن الاحتياطيّات التقريبيّة المُعلنة لحقل "غزّة مارين" تبلغ حوالى تريليون قدم مكعب من الغاز، فيُمكن القول بأنّ دورة حياة الحقل ستتراوح بين 7-10 سنوات، وربما أقل من ذلك بحسب مستويات الطلب على الموارد الحقل وعوامل أخرى. وقد كنت متحفّظا بعض الشيء في بناء البروفايل الإنتاجي للحقل، حيث افترضت أن الحقل سينتج خلال حياته حوالى 75% من الاحتياطيّات المُعلنة (وقد تتغيّر أرقام هذه الاحتياطيّات صعودا أو هبوطا بعد الإجراء المزيد من عمليّات التقييم مستقبلا)، كما أنّني افترضت أن الإنتاج من الحقل سينخفض بمعدّل 25% سنويّا بعد وصوله آخر سنوات الذروة. أما بالنسبة للتكاليف الاستثماريّة والتشغيليّة، فاعتمدتُ في تقديرها على المعلومات حول تكاليف تطوير مُجمع Yam Tethys الإسرائيليّ الذي يضم حقلي "ماري-بي" و"نوعاه" والذي بدأ إنتاجه عام 2004 قُبالة سواحل أسدود قبل أن ينضب. وقد اعتمدتُ هذا المُجمّع كـ "حقل مناظر" للقياس لأنه يتقارب في خصائصه الجيولوجيّة وحجم احتياطياته وقربه من الساحل مع حقل "غزّة مارين". وبطبيعة الحال، فقد أخذت بعين الاعتبار التضخّم الذي حدث عبر الزمن في تكاليف مشروعات الطاقة منذ ذلك الوقت، واستطعتُ في ضوء كلّ هذه العوامل الاستخلاص بأنّ تطوير حقل "غزّة مارين" سيتكلّف 700-800 مليون دولار.
  • يُمكن القول بالاعتماد على الأرقام التي استخلصناها في المنشور السابق، أننا أمام حقلٍ "غزّة مارين" متواضع من ناحية الحجم، خاصّة إذا ما قورن بالحقول التي اُكتشفت في منطقة شرق المتوسّط خلال العقدين الأخيرين وعلى رأسها حقول "ظهر" و"تامار" و"ليفياثان" و"أفروديت". ولهذا السبب فإنّ تطوير الحقل قبل بدء أوّل إنتاجٍ منه قد يستغرق -بافتراض حلّ كلّ المعضلات القانونيّة والسياسيّة والتقنيّة- ما بين عامين إلى ثلاثة أعوام، خاصّة وأنّه ليس بعيدا كثيرا عن اليابسة وأنّ مرافق الإنتاج التي سيحتاجها ستكون صغيرة، ونظرا لأنّ هنالك في المنطقة البحريّة الإسرائيليّة المصريّة مرافق إنتاج قائمة فعلا ويمكن استغلالها من أجل تطوير الحقل. (وهذا تكتيكٌ متّبع في الصناعة حيث تلجأ الشركات أحيانا إلى تطوير حقل ما بدون بناء مرافق إنتاجيّة كاملة له عبر ربطه بمرافق قائمة بالقرب منه من أجل تخفيض التكاليف مثلا أو لاعتبارات فنيّة أو لوجستيّة). ولأنني لا أمتلك بياناتٍ إحصائيّة دقيقة حول معدّلات استهلاك الغاز في الأراضي الفلسطينيّة، خاصّة أن محطّات توليد الكهرباء تعمل جميعها بالوقود، فقد كان من الصعب عليّ المغامرة بتقدير عدد السنوات التي سيتمكّن خلالها الحقل من تلبية الاحتياجات المحليّة من الغاز لأغراض توليد الطاقة، وكذلك تقدير الفائض الذي يمكن أن يتوفّر للتصدير بعد تلبية الاستهلاك المحلّي.

يتبع

(Visited 112 times, 1 visits today)