أثناء عمليّة ترتيب وأرشفة على جهاز الكمبيوتر خاصّتي، وجدتُ بعض النصوص والخواطر القديمة التي كنتُ قد كتبتها في زمنٍ بعيد، ومن بينها النصّ الذي سيرد أدناه. وكنتُ قد تقدّمتُ للحصول على تأشيرة للسفر من أجل إكمال الدراسات العليا في صيف ذلك العام. ورغم الصعوبة الشديدة التي كانت تكتنف السفر عبر معبر رفح في ذلك الوقت، إلا أنّ شعوري الداخلي كان يقول لي أنني مُغادرٌ لا مُحالة في أوائل شهر آب، ولذلك فقد عكفتُ في نهايات تمّوز على لقاء بعض الأصدقاء قبل السفر. وأثناء عودتي بسيارة الأجرة من زيارة لأحد الأصدقاء في مثل هذه الأيّام بالضبط من عام 2011، وكان كلّ سكان القطاع قد نفروا إلى شاطيء البحر بحثا عن متنفسٍ بسبب الحر القاتل، انتابتني مشاعرٍ غريبة للغاية لم أستطع القبض على كنهها حتى يومنا هذا. وعندما وصلتُ البيت كانت تلك المشاعر لا تزال طاغية على أفكاري وخيالي، ووجدتُ نفسي أستلّ قلمي لأكتب نصّا قصيرا أعتبره واحدا من أقرب النصوص إلى قلبي، وقد كان بمثابة رسالة وداعٍ أخيرة للمدينة قبل تركها:

"هذا اليوم كان استثنائيّا. لقد وصل مستوى الرطوبة مراحل متقدّمة، ووضع انقطاع التيّار الكهربائي لساعات طويلة، البشر على محكّ السؤال: أين نذهب؟ كانت السيّارة مُنطلقة كصاروخ فقد هدفه، وعبر الزجاج، كنت أستطيع أن أرى الناس وهي تتحوّل إلى أضواء بألوان وأشكال مُتموّجة. كانوا ينفرون إلى شاطيء البحر والشوارع الرئيسيّة والأزقّة ومحلات الشاورما والتسلية. كأنّه الإنذار الأخير قد استحال غيمة فوق المدينة، فأطلق الخوف والسأم والرغبة. رأيت أسرا كاملة تعدو كفِيلة فرِحة انتهت من مُداعبة الماء، ومتزوّجين حديثا وعزّابا ومُنقّبات امتلأت وجوههن بالماكياج وخُطّابا يسيرون برفقة فتيات جميلات متصنعين الثقة والنشوة. وخرج الأثرياء بسياراتهم الفخمة يستعرضونها أمام المنتجعات، وامتلأت صالات الأفراح عن آخرها بالنسوة والصبايا. وفي شارع خلفي رأيتُ فتاتين تلبسان البروتيل وتمشيان بثقة. وفي محل البوظة، وقف الأطفال مشدوهين أمام الألوان الآسرة، والتهموا بسكويتهم المحشو بالكرات الملوّنة بشراهة الوحوش، فيما الآباء كانوا يتصنّعون الرزانة والهدوء، يمدّون بأيديهم المتعبة للبائعين ثمن ما اشترته عائلاتهم باستكانة تثير الشفقة. في الشارع الطويل رأيتهم يشبكون أيديهم إلى ظهورهم ويضبطون مشياتهم على إيقاع الملل .. إنه هارموني العالم".

(Visited 103 times, 1 visits today)