حرب أوكرانيا: ملاحظات في الاقتصاد والإدارة الصناعيّة

بدأت وزارة الدفاع الأمريكيّة "البنتاغون" مُؤخّرا مراجعة مستوى مخزونات السلاح الأمريكيّ، وذلك بسبب ظهور مُؤشّراتٍ مُقلقة على تسارع "نضوب" بعض هذه المخزونات بعد زيادة شحنات السلاح إلى أوكرانيا خلال الأشهر الأخيرة، وخاصّة في ظلّ الاستهلاك الأوكرانيّ الهائل للذخائر ضمن المسعى المُستمر لصدّ الهجمات الروسيّة أو القيام بهجماتٍ مُضادة شرقي البلاد، إذ تُشير التقديرات إلى أنّ الأوكرانيين يستنفذون حوالى 5000 قذيفة مدفعية يوميا، وهو رقمٌ مساوٍ لطلبيّة دولة أوروبيّة صغيرة من قذائف المدفعيّة سنويّا في أوقات السلم (1). ويُعزّز من مُؤشّرات هذا النضوب، ما صرّح به ينس ستولتنبرغ، الأمين العام لحلف شمال الأطلسي "الناتو" مُؤخّرا، حين قال أنّ دول الحلف في "سباقٍ لوجستيّ" مع روسيا، في إشارة إلى سعي الدول الغربيّة إلى تزويد الأوكرانيين بسرعة بالذخائر المطلوبة لصدّ الهجوم الروسيّ الكبير المُتوقّع شنّه على جبهات الشرق الأوكرانيّ.

السبب الأوّل لهذا النضوب، بحسب العسكريين الأمريكيين، مرتبطٌ بعقيدة وهيكل الصناعة العسكريّة الغربيّة التي صُمّمت في العقود الأخيرة للتعامل مع الحروب التلفزيونيّة النظيفة، حيث تُوظّف الأسلحة الذكيّة المُوجّهة بالأقمار الصناعيّة لضرب مفاصل سلسلة القيادة والسيطرة للعدو وإفقاده توازنه من اللحظة الأولى للحرب (العراق 1991 و2003)، وحروب مكافحة الإرهاب التي تُستخدم فيها غالبا أسلحة خفيفة للقتال ضمن البيئات الحضريّة، أو ذخائرٌ صغيرة تُطلق من الطائرات المُسيّرة (صواريخ "هلفاير" نموذجا). الحرب الأوكرانيّة جاءت لتُجبر العسكريين الغربيّين على ركوب آلة الزمن من حيث لم يحتسبوا، فمشاهد قتال الخنادق والاعتماد المُتزايد على المدافع، ذكّرتهم بأنّ الحرب التي يتابعونها ويسعون للتأثير في مجرياتها، هي حربٌ كلاسيكيّة من حروب القرن العشرين، تستلزم استخداما كثيفا للأسلحة والذخائر التقليديّة، وهو وضعٌ لم تتعامل معه ماكنة الصناعة العسكريّة الغربيّة منذ زمن طويل.

السبب الثاني هو أنّ الصناعة العسكريّة الغربيّة، وبسببٍ من حالة السلم الطويلة، كانت تتعامل لعقودٍ طويلةٍ مع طلباتٍ تسليحيّة مُحدّدة ومعروفة مُسبقا، وتعتمد على سلاسل إمدادٍ موثوقة وراسخة ومتلائمة مع عقائد الجيوش الغربيّة واستراتيجيّاتها. وقد قادت عمليّات إعادة الهيكلة الاقتصاديّة التي رافقت صعود السياسات النيوليبراليّة، والتي طالتْ كلّ فروع الصناعة الغربيّة تقريبا، بما فيها صناعة السلاح، إلى اعتماد النموذج التصنيعي المعروف باسم "Just-in-Time Manufacturing" على نطاقٍ واسع، وهو نموذجٌ يقوم على تحسين الكفاءة وخفض النفقات من خلال بناء مصانع صغيرة بدون طاقة تخزين كبيرة، وتقضي فلسفته بإنتاج السلع فقط حين يستلم المصنع طلبيّة من المُستهلك، وبتصنيع ذات العدد من المُنتجات التي طلبها بدون المغامرة بإنتاج فائضٍ منها أو إنتاجها قبل الأوان، وذلك لتجنّب تكاليف التخزين وتقلّبات الطلب والعرض (2). وقد كان من الطبيعيّ أن يتعرّض هذا النموذج لاختناقاتٍ كبيرة بمجرّد ازدياد الطلبات على أنظمة تسليحيّة بعينها لرفد القتال الأوكرانيّ ضدّ الروس، إذ أنّه لم يكن مُهيّئا لصراعٍ من هذا النوع وطلبيات سلاح بهذا الحجم.

إنّ صناعة السلاح، كما أيّ صناعة مُتقدّمة في عصر العولمة، تعتمدث على سلسلة إمدادٍ طويلة ومتشعبية نسبيّا، وهذا يخلق عوائق جديّة أمام عمليّة التنسيق الصناعيّ على طول هذه السلسلة، وأمام إنتاج الأنظمة التسليحيّة بالسرعة المطلوبة، وتحديدا في أوقات السلم التي تتميّز بالارتخاء المُؤسسي والمعنوي (3). وقد زاد الطين بلّة أن جائحة "كوفيد-19"، التي اجتاحت العالم خلال السنتين الأخيرتين، ألقتْ بظلالها على سلاسل الإمداد الصناعيّة، وضاعفت من المصاعب في الحصول على بعض مُدخلات الإنتاج لصناعة السلاح مثل العمّال والرقائق الإلكترونيّة (يحتاج إنتاج منظومة "جافلين" المُضادة للدروع 200 رقاقة إلكترونيّة ومثلها تقريبا لمنظومة "هيمارس"، وعلى مستوى العمالة، فالصعوبة لا تكمن فقط في إيجاد عمّال تقنيين مهرّة للعمل في قطاع متطوّر كهذا، بل وأيضا في الإجراءات الطويلة لاستكمال الفحص الأمني لهؤلاء العمّال الذين سينخرطون حُكما في مشروعاتٍ حسّاسة عسكريّا). ولا شكّ أن أزمة ارتفاع أسعار الطاقة قد أضافت بعدا جديدا للمشكلة، حيث اشتكى بعض مُصنعي الأسلحة في القارّة الأوروبيّة مُؤخّرا من صعوبة الحصول على "حمض النيتريك" المُستخدم في تصنيع المواد المُتفجّرة لقذائف المدفعيّة بسبب تباطؤ الإنتاج في مصانع الأسمدة الأوروبيّة والناجم بالأساس عن الارتفاع الكبير في أسعار الغاز الطبيعيّ (4).

هذه المخاوف دفعتْ شركات الأسلحة في القارّة الأوروبيّة والولايات المُتّحدة للبدء بإجراءاتٍ لتغيير أنظمة العمل، وذلك عبر توظيف المزيد من العمّال المُؤقتين واستحداث نظام العمل على مدار الساعة لمواكبة الطلب المُتزايد على الأسلحة من قِبل الحكومات الغربيّة المُختلفة. ويبدو هذا الاتّجاه التوسّعي أقوى لدى شركات الأسلحة الأوروبيّة، التي تشعر بلدانها أنها أقرب من الخطر وأنها أكثر تماسا مع تبعات الأزمة التي تفجّرت في القارّة الأوروبيّة بعد اندلاع الحرب الأوكرانيّة. أمّا شركات السلاح الأمريكيّة، وتحديدا الكبار الخمسة، فيبدون -رغم حصولهم على عقود لتصنيع الأسلحة من قبل الحكومة الأمريكيّة مؤخرا لتعويض النقص في المخزون- أكثر تردّدا في الذهاب بعيدا في خطط التوسّع، ويربطون قيامهم ببناء مصانع جديدة واستثمار المزيد من المال بتوقيع عقود لعدّة سنوات من قِبل "البنتاغون" بدل العقود الطارئة الموقّعة مؤخّرا. ولا شكّ أن شركات السلاح الأمريكيّة -إلى جانب شركات الطاقة- هي من بين أكثر المستفيدين من الحرب الأوكرانيّة، ولن يكون من المنطقي استبعاد حقيقة أن اللوبي الخاص بها يقوم بكل ما يُمكن القيام به الآن من أجل إدامة هذه الحرب لبيع المزيد من السلاح لا للحكومة الأمريكيّة فحسب، بل للحكومات الغربيّة التي بدأت جميعها بلا استثناء برامج ضخمة للإنفاق على التسلّح وإعادة هيكلة أنظمتها الدفاعيّة.

يُمكن الخروج من هذه المعطيات كلّها، ومن الحرب الأوكرانيّة عموما، باستخلاصاتٍ كثيرة. واستخلاص الدروس والعِبر من هذه الحرب واجبٌ وضرورة على كلّ الأمم والجماعات المُتحاربة لكي لا تدور عليها دورات الزمن القاسية، ولكي لا تغدر بها أنواء الحوادث العاصفة، فتُلقي بها في ظلال التاريخ جريحة مكلومة بلا فرصٍ للشفاء والنهوض. ولعلّ المرء يكتفي ها هُنا باستخلاصين اثنين. الأوّل أن فكرة الحرب الخاطفة الحاسمة فكرة ساحرة لكل من يريد خوض غمار الحرب والانتصار فيها، والسياسيّون على الدوام أكثر من العسكريين تحت وطأة إغرائها الشديد (5). لكنّ دروس التاريخ تقول لنا أنّ الحرب الخاطفة كانت في أغلب الأحيان شيئا غير حقيقي، وأقرب إلى الأسطورة منها إلى الحدث الواقعيّ القابل للحدوث، وأنّ الحروب تندلع لتطول ولتتحوّل إلى جرحٍ مفتوح يستنزف أطرافها، وأنّ العقائد العسكريّة الجديدة التي يجترحها العسكريّون المُتحذلقون لتحقيق النصر السريع، على نقيض ما استقرّ من عقائد في التاريخ العسكريّ لبلدانهم، غالبا ما تقود إلى دروبٍ وعرة وأوحالٍ صعبة وإلى إطالة زمن الحرب. أما الاستخلاص الثاني فهو أنّ الحرب ظاهرة أشمل وأوسع بكثير من ميدان القتال العسكري، وكما أنها تحمل في طياتها اختبارا لإرادة الإنسان المقاتل تحت أزيز الرصاص ودويّ المدافع، فهي تنطوي أيضا على اختبار أكثر عمقا وصعوبة لقدرات الإنسان في تنظيم الموارد والإدارة الصناعية والإبداع التقني، وهذه هي المعركة الحقيقية التي أطلقتها حرب أوكرانيا في الغرب الذي عاش طويلا في وهم الهيمنة التي ظنّ أنها ستكفل له السلام الدائم.


(1) أرسلت الولايات المتحدة لأوكرانيا حتى يومنا هذا 8,500 منظومة "جافلين" المُضادة للدروع، ويمثّل هذا الرقم حوالى ثلث مخزون الجيش الأمريكيّ من هذه المنظومة. تتكلّف وحدة الإطلاق الناريّة في "جافلين" حوالى 310 ألف دولار، بينما يتكلّف الصاروخ حوالى 263 ألف دولار. وقد أرسلت الولايات المتحدة أيضا 38 منظومة من منظومات "هيمارس" الصاروخيّة، التي يتكلّف إنتاج الوحدة الواحدة منها -بدون الصواريخ- حوالى 6.8 مليون دولار. وقد كان عجز شركات السلاح الأمريكيّة عن مواكبة الطلب الهائل على السلاح من قبل أوكرانيا، وراء قرار "البنتاغون" أخيرا بإرسال حوالى 300 ألف قذيفة عيار 155 ملم من مخازن الطواريء التابعة للجيش الأمريكيّ في إسرائيل.

(2) على المستوى النظري، يُنظر إلى الأمريكيين فريدريك تايلور، مؤسس نظريّة الإدارة العلميّة، وهنري فورد، الذي ابتكر خطّ التجميع الفوردي في مصانع السيارات، والذي أحدث ثورة في عالم التصنيع الحديث، كآباء لهذا النموذج. لكن على المستوى العملي، فإنّ هذا النموذج توطّن ووجد شكله الأكثر نضوجا في اليابان بعد انتهاء الحرب العالميّة الثانية، وتحديدا في مصانع شركة "تويوتا" للسيّارات، التي تبوأت خلال فترة قياسيّة، مكانة مرموقة في عالم صناعة السيارات، وقدرة لا تُضاهى على منافسة أقوى شركات المركبات الغربيّة والأمريكيّة منذ ذلك الوقت. ويروق للكثير من أرباب الصناعة والباحثين المختصين في هذا الحقل تسمية هذا النموذج بـ "نموذج تويوتا الإنتاجي".

(3) وعلى سبيل المثال، فإن الولايات المتحدة توقفت عن إنتاج منظومة "هيمارس" في الأعوام بين 2013 و2017، عندما أصبحت جبهات القتال في العراق وأفغانستان أكثر هدوءا، وقد انخفض إنتاج "جافلين" من 1,300 قطعة في العام في 2009 إلى 400 قطعة فقط في عام 2013.

(4) حتّى نفهم جانبا من تشعّب وتعقيد سلسلة إمداد إنتاج السلاح في الولايات المتحدة، وطبيعة العوائق التي يُمكن أن يُواجهها إنتاج منظومات بعينها، فلنضع هذه الأرقام أمامنا: إن شركة "لوكهيد مارتن" التي تُصنّع منظومة "جافلين" المُضادة للمدرّعات ومنظومة "هيمارس" الصاروخيّة، تعتمد على شبكة من الموردين تضم 408 مورّدا مُباشرا وحوالى 17722 مورّدا غير مباشر لصناعة مجمل منتجاتها، ولدى الشركة ما يقارب من 110 متعاقد من الباطن لتصنيع منظومة "هيمارس". وتُجمّع منظومة "هيمارس" في مصانع في أكثر 141 ولاية، بينما تُجمّع منظومات "جافلين" عبر 16 ولاية أمريكيّة. وقد أصبحت صناعة السلاح الأمريكيّة منذ التسعينيّات أكثر تركّزا واعتمادا على احتكار القلّة، وهو ما يجعلها أقل مرونة وحيويّة، وهو ما يعني أيضا أنّ أي اختناقٍ في السلسلة الإنتاجيّة، حتى لو كان في مصنعٍ صغير يقدّم أجزاء دقيقة، بإمكانه إعاقة الإنتاج في كامل السلسلة.

(5) حين استدعي اللورد هوراشيو كيتشنر (كيتشنر الخرطوم) عشيّة الحرب العالميّة الأولى ليصبح وزيرا للدفاع في المملكة المتحدة، كان السياسيون الإنجليز على قناعة بأنّ الحرب ستنتهي في غضون أشهر، وأن مدافع سلاح البحريّة هي من ستحسمها وأن الجيش البريطاني المحترف سيكون كافيا لخوض الحرب. لكن كيتشنر، صاحب الخبرة العسكريّة الطويلة، كان قانعا بأن الحرب ستستمر لسنوات وأن بريطانيا بحاجة لملايين من المتطوعين لكسبها. في عام 1915، اندلع ما يُعرف بـ "أزمة القذائف"، حين تم الكشف عن عجز الجيش البريطاني عن القيام بالمهمام الموكلة إليه في الجبهة الغربيّة بسبب الافتقار لقذائف المدفعية، الأمر الذي أدى إلى سقوط حكومة هربرت إسكويث واستحداث وزارة جديدة باسم "وزارة الذخائر" بقيادة لويد جورج لتنسيق ومركزة عمليّة الإنتاج الصناعي للذخائر.

(Visited 117 times, 1 visits today)