ألقى السيد ريتشارد مور، رئيس الجناح الخارجي في الاستخبارات البريطانيّة، الأسبوع الماضي، خطابا وداعيا استثنائيّا، وذلك بعد أربعين عاما من الخدمة في السلكين الدبلوماسي والاستخباري البريطاني. وقد اختار مور القنصلية البريطانية في إسطنبول لتكون المحطّة التي تحتضن لفتته الوداعية، بالنظر للصلات الوجدانية العميقة التي تربطه بالمدينة التي بدأ فيها خدمته العملية، حين جاء إليها طالبا لتعلّم التركية أواخر الثمانينيات، وبالنظر للمكانة التي احتلتها تركيا في القضايا التي تعامل معها كرئيس لجهاز «M16»، كما قال في مطلع حديثه.
يُعدّ خطاب مور خطابا غير مسبوق لسبيين اثنين. الأول لأنه يناقض، بشكل ما، العقيدة الراسخة للاستخبارات البريطانية منذ مطلع القرن العشرين، والقائمة على الكتمان الشديد والسرية المطلقة وتجنّب التباهي بالإنجازات. والثاني لأنه انطوى على صراحة كبيرة في الكثير من القضايا التي تناولها، وتحديدا في المسألة المتعلّقة بروسيا، حيث ألمح لبعض التفاصيل الهامة التي قد تُعين على فهم الطريقة التي انزلقت فيها روسيا في الحرب الأوكرانية، كما أنه تضمّن دعوة للمواطنين الروس وغيرهم للتعاون مع الجهاز من خلال التواصل معه عبر «الدارك ويب» (الإنترنت العميق)، معتبرا ملف روسيا على رأس أولويات الجهاز.
كما تضمّن خطاب الرجل، بالإضافة لشرح مأزق بوتين وروسيا في الحرب، الذي أفرد له الجانب الأكبر من كلامه، مرورا على قضايا متنوعة مثل الصين وإيران وسوريا (حيث اعترف بنسج الاستخبارات البريطانية علاقة مع «هيئة تحرير الشام» قبل سقوط بشار الأسد)، ودخول التكنولوجيا الحديثة لعالم التجسس، خاصة أن خليفته في المنصب، بليز متروويلي، وهي أول امرأة ستشغل رئاسة الجهاز، كانت مسئولة قسم التقنية والابتكار في «M16». وقد ارتأيتُ ترجمة الخطاب بوصفه وثيقة تاريخية يمكن العودة إليها دوما من قِبل الباحثين والمهتمين بالشئون العامة والدولية.
صباح الخير سيداتي سادتي. من الرائع أن أعود إلى وطني الثاني، تركيا، البلد الذي حظيت فيه أنا وزوجتي بامتياز العيش ثماني سنوات، كان آخرها حين خدمت كسفير بريطاني لمدة أربع سنوات شيقة من 2014 حتى 2017.
لكن ارتباطي بتركيا بدأ قبل ذلك بكثير، في عام 1989، حين جئت كطالب لغة شاب إلى إسطنبول لأقيم مع عائلة تركية عدة أسابيع بهدف تحسين لغتي التركية التي تعلمتها حديثا. وقعت في حب هذا البلد المذهل، شعبه المضياف بشكل استثنائي، مطبخه الرائع، ومزيجه المدهش من التاريخ والطبيعة الخلابة، ووقعت في حب نادي بشكتاش لكرة القدم، وتوطدت هذه العلاقة أكثر بولادة ابنتي هنا في إسطنبول، فهي إسطنبولية أصيلة.
ولم أختر إسطنبول لإلقاء هذا الخطاب بدافع العاطفة فحسب، بل أيضا لأنها، وكما هو حالها منذ قرون، بلد ذو أهمية محورية في النظام الدولي. ففي معظم القضايا التي تعاملت معها كرئيس لجهاز «M16»، كانت تركيا لاعبا رئيسيا.
تركيا، الحليف في «الناتو»، دعمت بقوة سيادة أوكرانيا واستقلالها، متأثرة بشكل خاص بمعاناة أبناء عمومتهم العرقيين، تتار القرم، لكنها ملتزمة قبل كل شيء بالقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة. وإلى الشرق تشترك مع المملكة المتحدة في مصلحة استقرار القوقاز وآسيا الوسطى بعيدا عن النفوذ الخارجي الخبيث. وإلى الجنوب عملنا معا ضد إرهابيي ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية ولتعزيز استقرار سوريا بعد الأسد.
نشترك معا أيضا في الاشمئزاز من وحشية 7 أكتوبر، والذعر من المعاناة المروعة للفلسطينيين الأبرياء في غزة التي تلتها، ونؤمن أن الحل القائم على دولتين وحده كفيل بتحقيق الأمن والازدهار الدائمين للإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء. وفي كل هذه المساعي، حظيت بفرصة العمل عن قرب مع مديري جهاز الاستخبارات التركي، هاكان فيدان وحاليا إبراهيم قالن، وهما مهنيان بارعان وأصدقاء أوفياء.
عندما عُينت في منصبي، قررت أن أتحدث علنا وبشكل أكثر تكرارا حيث يمكن لذلك أن يخدم المصلحة الوطنية لبريطانيا. في أول خطاب عام لي في المعهد الملكي للخدمات المتحدة في لندن، طرحت المفارقة القائلة إن «M16» بحاجة إلى أن “يكون أكثر انفتاحا ليظل سريا”.
كنت أعبر عن حقيقة أساسية حول العالم الذي نعمل فيه اليوم. فإذا أردنا أن نبقى جهاز استخبارات فعالا في القرن الحادي والعشرين، ونحافظ على سرية هويات عملائنا وأساليب عملنا، فعلينا أن نستمر في التحديث والتكيف؛ عبر توسيع شراكاتنا، خاصة في مجال التكنولوجيا، وتعزيز علاقتنا مع المجتمع الذي نخدمه، سواء عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث أطلقنا حسابنا على «إنستغرام» الأسبوع الماضي، أو عبر خطابات كهذا الذي ألقيه أمامكم. ولتحقيق ذلك، علينا أن نكون أكثر انفتاحا.
إنها مقاربة استراتيجية أؤمن بها اليوم أكثر من أي وقت مضى، وأنا أعلم أن خَلَفي، بليز متروويلي، تؤمن بها أيضا.
أي مؤسسة تريد أن تحافظ على حقها في العمل، وخاصة مؤسسة فريدة مثلنا، يجب أن تكسب وتحافظ على الثقة. وبالنسبة لنا، يأتي ذلك من حوار مستمر مع الشعب البريطاني الذي نخدمه، ومن الانخراط مع شركائنا الدوليين في بلدان مثل تركيا.
لهذا كنت ملتزما دائما بشرح من نحن، ماذا نفعل، ولماذا نفعل ذلك. لذلك، في هذا الخطاب الأخير لي بصفتي «C»، أود أن أتأمل قليلا في ما أنجزه «M16» خلال السنوات الخمس الماضية، وكذلك أن أتطرق إلى بعض المخاطر المستمرة التي ستركز عليها بليز وفريقها بدءا من أكتوبر. وأود أن أولي اهتماما خاصا للأحداث في أوروبا، والغزو غير القانوني لأوكرانيا من قبل بوتين، والذي كان قضية محورية بالنسبة لي كرئيس، وبالنسبة لبلدنا.
أولا، تطور «M16» نفسه بعد خمس سنوات، كيف أصبحنا مختلفين؟ لقد كنت دائما أؤمن أن «M16» يجب أن يعكس صورة البلد الذي نخدمه. ليس فقط لأن ذلك هو الصواب، بل أيضا لأن التنوع يساعدنا على أداء أفضل لحماية المملكة المتحدة. وأنا مسرور أننا نستطيع الإشارة إلى تقدم ملموس. لم يكتمل العمل بعد، لكننا أحرزنا تحسينات قابلة للقياس.
تولت نساء كثيرات مناصب قيادية عبر الوكالة، في العمليات الاستخباراتية، داخل المملكة المتحدة وخارجها، وفي فرق التكنولوجيا. إلى جانب ذلك، تمت ترقية زملاء من خلفيات عرقية مختلفة إلى مناصب عليا لأول مرة.
ومن أكثر اللحظات المؤثرة في فترتي إصدار اعتذار علني لمجتمع المثليين عن الظلم الذي عانوه، خاصة الحظر على خدمتهم في «M16» حتى عام 1991. كانت تلك لحظة فخر.
لكن أمامنا طريق طويل لنقطعه؛ فما زالت النساء يشكلن 40% فقط من موظفينا، والأقليات العرقية أقل من 10%، وعلينا أن نفعل المزيد لجذب أشخاص من خلفيات اقتصادية متواضعة، من جميع الأعراق.
لم يكن هناك مجال احتجنا فيه إلى التغيير أسرع من مجال التكنولوجيا. خصومنا يسعون لاستغلال أحدث التقنيات لمهاجمة مصالح المملكة المتحدة بدقة ونطاق متزايدين. في «M16»، علينا أن نفعل أمرين في وقت واحد: نتصدى لهذه التهديدات المدعومة بالتكنولوجيا؛ وفي الوقت نفسه نستفيد من التقدم التكنولوجي لصالحنا، سواء التكنولوجيا التي تخرج من الجامعات أو الشركات الناشئة أو شركات التكنولوجيا الكبرى، أو من التعاون الدولي مثل الشراكة البريطانية-الأمريكية هذا الأسبوع، أو من خبرائنا المبدعين داخل الوكالة.
ولهذا السبب كان أحد أولوياتي كرئيس هو بناء شراكات جديدة. ينجز الكثير من هذه المهمة بالتعاون مع «HMGCC»، المركز الوطني البريطاني للهندسة الأمنية. وقد تجلى توجههم الجريء نحو مزيد من الانفتاح في مركزهم المشترك للإبداع في ميلتون كينز، الذي يجمع بين خبرات فنية من خارج الحكومة وخبراء من داخلها لإيجاد حلول مبتكرة بذكاء لأصعب تحديات الأمن القومي.
نحن نساعد أيضا المملكة المتحدة وحلفاءها على بناء تقنيات متقدمة من خلال شراكتنا مع “صندوق الاستثمار الاستراتيجي للأمن القومي”. يدعم هذا الصندوق الشركات البريطانية التي تمتلك تقنيات مزدوجة الاستخدام لها قيمة تجارية وأمنية وطنية. إن توفير الدعم المبكر المناسب من مجتمع الاستخبارات لدينا يمكن أن يساعد هذه الشركات على الازدهار، وأن تصبح ربما شركات رائدة في المستقبل.
ندعم شركات جريئة وشجاعة ذات أفكار كبيرة في مجالات مثل الحوسبة الكمية، والذكاء الاصطناعي، والبيولوجيا التركيبية. وبالنسبة للمملكة المتحدة، فهذا يوفر لنا تقدما في قدرات أمننا القومي ويخلق وظائف تقنية عالية القيمة داخل البلاد.
هكذا نحافظ على تقدمنا. ليس بالتراجع إلى سرية أعمق، بل بالانفتاح الكافي لبناء الشراكات الصحيحة، وتوظيف أشخاص من كل أطياف المجتمع، والتكيف بسرعة مع حجم التهديدات التي نواجهها. ونحن نفعل ذلك كجزء من مجتمع الاستخبارات البريطاني: «M16»، و«M15»، و«GCHQ»، أو اختصارا «UKIC». وأعتقد أنه لا يوجد أحد في العالم أفضل من «UKIC» في التعاون الاستخباراتي. هذه هي “الخلطة السرية” التي نحظى بها ويحسدنا عليها شركاؤنا وخصومنا على حد سواء. إن «UKIC» أكبر بكثير من مجرد مجموع أجزائه.
إذن، عندما قلت إننا بحاجة إلى أن نكون أكثر انفتاحا لنظل سريين، كنت أعني ذلك. الأمر يتعلق بالسرعة، وبالابتكار، وببناء الثقة داخل «UKIC» ثم توسيعها للشركاء من خارجها. لا يمكن لـ«M16» أن يظل فعالا وذا صلة في السنوات المقبلة إلا كجزء من ذلك الفريق الأوسع.
الثقة، الحقيقة، الخداع والتجسس هي عناصر أساسية لأكبر تحد واجه جهازنا وبلدنا خلال خمس سنوات توليت فيها القيادة: الغزو الروسي غير المبرر وغير القانوني لأوكرانيا. كنا في طليعة الجهود لدعم الأوكرانيين في دفاعهم عن أنفسهم وعن المبادئ التي نعتمد عليها جميعا من أجل السلام والأمن.
لقد كان لقيادة الرئيس زيلينسكي دور حاسم. ما زلت أتذكر الرجل الذي استضفته على الغداء في أول أسبوع لي كرئيس؛ كان لا يزال حديث العهد بالسياسة، قائدا غير مجرب. لكن حتى في ذلك الوقت، كان يمكن أن تلمس صلابته وتصميمه. إن مشاهدة تحوله إلى القائد الذي هو عليه اليوم امتياز رائع. إعجابي به بلا حدود. وأنا فخور بالقول إن دعم أوكرانيا بين الشعب البريطاني لا يزال ثابتا، وهو ما يعزز إصرار رؤساء وزرائنا المتعاقبين على أن تكون المملكة المتحدة أكبر مؤيد وحليف لكييف.
إن معاناة الشعب الأوكراني هائلة. لقد شهدت الحرب مستويات من الموت والدمار لم تُرَ في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، وتم استهداف المدنيين بوحشية باردة ومحسوبة. وفي الأسابيع الأخيرة، كثفت روسيا هجماتها على الأهداف المدنية أكثر فأكثر.
لا يمكن أن تكون هناك مساواة بين معاناة المعتدي ومعاناة الضحية، لكن من الواضح تماما أن عدم اكتراث بوتين بحياة البشر يمتد أيضا إلى شعبه. لقد تكبدت روسيا أكثر من مليون إصابة، ربعهم قُتلوا، حيث يتم إرسال جنود مدربين تدريبا ضعيفا من أفقر مناطق روسيا إلى المحرقة.
كل إنسان عاقل يريد وقف القتل. أحيي جهود الرئيس ترامب لحل النزاع، والرئيس زيلينسكي لاستعداده لتقديم تنازلات صعبة للغاية، وزعماء أوروبا الذين يعملون لتحقيق سلام عادل ودائم.
ومع ذلك، لم أرَ أي دليل على أن الرئيس بوتين لديه أي اهتمام بسلام يتم التفاوض عليه ما لم يكن خضوعا أوكرانيا كاملا. إنه يخدعنا. لأن القضية كانت وما زالت قضية سيادة: بوتين ينكر سيادة أوكرانيا ووجودها ذاته كدولة وأمة.
يسعى لفرض إرادته الإمبريالية بكل الوسائل المتاحة له. لكنه لن ينجح: فروسيا ببساطة لا تملك القدرة الكاملة لإخضاع أوكرانيا بالقوة. نعم، هم يزحفون إلى الأمام في ساحة المعركة، لكن بوتيرة بطيئة جدا وبثمن باهظ، ولا يزال جيش بوتين بعيدا جدا عن أهداف غزوه الأصلية.
بصراحة، لقد عض بوتين أكثر مما يستطيع مضغه. لقد اعتقد أنه سيحقق نصرا سهلا. لكنه -والعديد غيره- قللوا من شأن الأوكرانيين. في الواقع، أدت أفعاله إلى تعزيز الهوية الوطنية الأوكرانية وتسريع توجه البلاد نحو الغرب، فضلا عن إقناع السويد وفنلندا بالانضمام إلى «الناتو».
لقد حاول بوتين إقناع العالم بأن النصر الروسي أمر لا مفر منه. لكنه يكذب. يكذب على العالم. يكذب على شعبه. وربما حتى يكذب على نفسه. إن رنين مكالمة هاتفية واردة من الرئيس يعادل جرس بافلوف في الكرملين، حيث يستجيب النظام ليخبر بوتين بما يظن أنه يريد سماعه. لكن يجب ألا نصدقه، أو ننسب إليه قوة لا يمتلكها.
في الفترة التي سبقت غزوه عام 2022، وبناء على معلومات استخباراتية استثنائية، اتخذت حكومتا الولايات المتحدة والمملكة المتحدة خطوة غير عادية: رفع السرية عن معلومات استخباراتية كشفت أكاذيب بوتين وكشفت عن الحشد العسكري الروسي وخطط الهجوم. كان قرارا دقيقا ومتوازنا: كان يجب أن يتم بطريقة لا تعرض المصادر للخطر، لكنه أثبت تأثيرا هائلا. فقد قوّض الدعاية الروسية، وأوقف التقدم الروسي الأولي، وحشد التحالف الذي سارع لمساعدة أوكرانيا.
الصورة الكبرى لا تزال أن بوتين يرهن مستقبل بلاده من أجل إرثه الشخصي ورؤية مشوهة للتاريخ. ونتيجة لذلك، فإن اقتصاد روسيا وديموغرافيتها، وقدرتها على فرض قوتها الإمبريالية، كلها في حالة تراجع طويل الأمد، وحرب بوتين تسرع هذا التراجع. إنه لا يستثمر في البنية التحتية أو المدارس أو المستشفيات، بل في الصواريخ والذخائر والمشارح.
يحذرنا التاريخ من عدم الاستهانة أبدا ببلد يقاتل من أجل استقلاله وبقائه. قوى أكبر من روسيا فشلت في إخضاع قوى أضعف من أوكرانيا. في النهاية، إذا تحلينا بالصبر، سيتعين على بوتين مواجهة حقيقة أنه أمام خيار: إما أن يخاطر بأزمة اقتصادية وسياسية تهدد حكمه، أو أن يتوصل إلى اتفاق معقول.
كان عليه أن يواجه هذا الخيار في وقت أبكر، لولا المساعدة الخارجية التي يتلقاها: نعم، الطائرات المسيّرة من إيران، والرجال والعتاد من كوريا الشمالية، لكن الدعم الذي قدمته الصين باستمرار لروسيا، دبلوماسيا وأيضا عبر “البضائع ذات الاستخدام المزدوج” مثل المواد الكيميائية “صنع في الصين” التي تُستخدم في قذائفهم، والمكونات الإلكترونية التي تُدمج في صواريخهم هو ما منع بوتين من التوصل إلى استنتاج أن السلام هو خياره الأفضل. ومن الواضح أن السلام يصب في مصلحة الشعب الروسي.
يجب أن أكون واضحا أن حكومتي، وخدمتي، وأنا شخصيا، لسنا أعداء لروسيا، بل فقط لأفعال الكرملين. بينما يخدع بوتين ويناور، فإن مهمتنا هي كشف الحقيقة.
بوتين ليس روسيا. وليس كل الروس يعتنقون فكر البوتينية. بعضهم يبقون رؤوسهم منخفضة ويحاولون مواصلة حياتهم قدر استطاعتهم. وبعضهم، مثل أليكسي نافالني، يقاوم علنا، ويدفع حياته ثمنا لمعتقداته. لكن آخرين يفعلون ذلك سرا، عبر التعاون مع «M16».
ينغمس ضباط الاستخبارات في ثقافات محاوريهم. روسيا، في نواح كثيرة، تمثّل جزءا كبيرا من تاريخ «M16». هذا البلد يحتل مكانة خاصة داخل الجهاز. «M16» مليء برجال ونساء يعرفون ويحبون العديد من إنجازات الثقافة الروسية، ويفهمون ويحترمون تضحيات شعبها في كفاحنا المشترك ضد ألمانيا النازية.
إلى الرجال والنساء في روسيا الذين لديهم حقائق ليشاركوها والشجاعة على فعل ذلك، أدعوكم للتواصل مع «M16». ستعملون من أجل إحلال السلام في قارتنا؛ من أجل حماية المصالح طويلة الأمد واستعادة شرف بلادكم. ستعملون مع منظمة من الطراز العالمي. سنبذل كل ما في وسعنا لإبقائكم آمنين. احتياجاتكم وطموحاتكم ستكون في المقام الأول. يمكننا أن نساعدكم على إحداث فرق.
التجسس حرفة قديمة، لكن العالم لم يشهد تغيرا بهذه السرعة من قبل، ونحن نتغير معه. العديد من أفضل عملائنا وأكثرهم حماسا كانوا متطوعين عرضوا خدماتهم على «M16». بابنا دائما مفتوح.
واعتبارا من اليوم، أصبح بإمكانكم الوصول إلينا بأمان عبر الإنترنت من خلال منصتنا الجديدة على «الدارك ويب» المسماة «Silent Courier». بوابتنا الافتراضية تستفيد من إخفاء الهوية على الشبكة المظلمة، بحيث يمكن لأي شخص في أي مكان في العالم التواصل بأمان مع «M16». تواصلوا معنا اليوم عبر «Silent Courier» واختاروا مستقبلا مختلفا لأنفسكم ولعائلاتكم ولبلادكم.
لكن نداؤنا اليوم لا يقتصر على الروس وحدهم. أي شخص في أي مكان بالعالم لديه إمكانية الوصول إلى معلومات حساسة تتعلق بالإرهاب أو أنشطة استخباراتية معادية، يمكنه استخدام المنصة الجديدة للتواصل مع «M16».
في حين أن روسيا تبقى واحدة من أهم مهام «M16»، فإن الأولويات الثلاث الأخرى، الصين وإيران ومكافحة الإرهاب، تظل تحديات مستمرة أيضا. ولهذا فإن المملكة المتحدة في عام 2025 تحتاج إلى «M16» قادر على العمل بمرونة وعلى نطاق واسع. ولتحقيق هذا الهدف، فأنا ممتن لرؤساء الوزراء المتعاقبين الذين أدركوا الحاجة إلى تمويل مجتمعنا الاستخباراتي بالشكل المناسب، رغم صعوبة الأوضاع الاقتصادية.
الصين، في نواح كثيرة، تجسد ذلك التناقض بين الفرصة والتهديد. بينما تتراجع روسيا، تصعد الصين. سيُعرَّف القرن الحادي والعشرون بلا شك بصعود “المملكة الوسطى”. فهي لاعب رئيسي في النظام العالمي، وعضو دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وبلد يسعى لتعميق تحالفاته الإقليمية، ولديه مسؤوليات فريدة تأتي مع حجمه وطموحه. في العديد من القضايا العالمية المشتركة: تغير المناخ، الذكاء الاصطناعي الآمن، والتجارة العالمية، لدى الصين دور ضخم ومرحب به لتلعبه. نحن، في المملكة المتحدة، نريد علاقة قائمة على الاحترام والبناء مع الصين.
لكن على الصين أن تلتزم بالقواعد الراسخة للتعامل وعدم التدخل التي تعلنها علنا. أسمع مخاوف زميلي، مدير «M15» السير كين مكالوم، بشأن التدخل الصيني في المملكة المتحدة؛ ونحن، في بريطانيا، سنتعامل بحزم في الدفاع عن حرياتنا، أسلوب حياتنا وأمننا الاقتصادي.
إيران برزت بشكل كبير طوال فترة خدمتي. يجب أن يبقى منع إيران نووية أولوية، وآمل أن ترى الحكومة الإيرانية أن مستقبلا مزدهرا وآمنا يكمن في الانخراط والتسوية، لا في اتباع استراتيجية عمياء تزعزع استقرار محيطها وتضعها على خلاف مع معظم دول العالم.
وكلاؤهم، رغم ما جلبوه من بؤس وعنف وموت إلى المنطقة، لم يُكسبوا إيران شيئا. ويجب أن نأمل أن إذلالهم على يد إسرائيل قد يفتح فرصة لإعادة ضبط. لكن ذلك يتطلب تغييرا في العقلية داخل طهران، وهو ما لم ترصده الاستخبارات بعد.
وغزة أيضا تحتاج إلى سلام لكي يترسخ مثل هذا التغيير في المنطقة، ولمنع استمرار المعاناة المروعة للفلسطينيين الأبرياء — التي نشاهدها بإصرار على شاشات التلفاز — من تغذية التطرف عالميا. نحتاج أن نرى الرهائن يعودون وأن تتدفق المساعدات بحرية.
في الموضوع الأوسع لمكافحة الإرهاب، نواصل العمل عن قرب مع وكالاتنا الشقيقة في المملكة المتحدة — GCHQ وMI5 — وكذلك مع شرطة مكافحة الإرهاب، ومع شركائنا في الخارج بما في ذلك تركيا، محافظين على تركيز دائم على التهديد الإرهابي.
في السنوات الأخيرة، تضررت منظمات إرهابية مثل ما يسمى بـ «تنظيم الدولة الإسلامية» و«القاعدة» من خلال جهد جماعي لتقويض قدراتها. جاء التهديد أكثر عبر لوحة المفاتيح من مشغلين منفردين محليي النشأة متطرفين ذاتيا، وهو خطر متفرق ومتشابك. لكن «داعش» و«القاعدة» يسعيان لإعادة تجميع صفوفهما لاستغلال النزاعات والمساحات الخارجة عن السيطرة لإعادة تأسيس نفسيهما، بينما يستخدمان التكنولوجيا لنشر أيديولوجياتهما العنيفة عبر الإنترنت. نحتاج إلى مرونة وشراكات جيدة لهزيمة هذه الجهود لبث الرعب. ونحتاج أيضا إلى رجال دولة يعالجون الأسباب الجذرية للتطرف التي تقود في النهاية إلى الإرهاب.
خلال فترة ولايتي كرئيس، واجهنا العديد من الأزمات غير المتوقعة: انزلاق السودان إلى حرب أهلية، سقوط حكومة غني في أفغانستان، نهاية 53 عاما من حكم عائلة الأسد في سوريا، وذلك على سبيل المثال لا الحصر. نحن نفخر بقدرتنا على الحفاظ على العلاقات طويلة الأمد التي تظهر أهميتها في وقت الأزمات.
استطعنا الحصول على معلومات استخباراتية عن السودان خلال ساعات؛ ونواصل مواجهة الإرهاب القادم من أفغانستان، وبعد أن نسجنا علاقة مع «هيئة تحرير الشام» قبل عام أو عامين من إسقاطهم لبشار، مهدنا الطريق لعودة الحكومة البريطانية إلى البلاد خلال أسابيع.
سوريا مثال جيد على أنه إذا استطعت أن تسبق الأحداث، فسيساعدك ذلك كثيرا حين تتحرك فجأة وبشكل غير متوقع بوتيرة أسرع. هذه المرونة شرط أساسي لـ«M16»، وأعتقد أننا ما زلنا بارعين فيها. قال لي جون راتكليف، مدير وكالة الاستخبارات المركزية، بينما كنا نناقش عملا مشتركا مؤخرا: “أنتم فعلا تعرفون كيف تندفعون بسرعة”
نفخر بتلك القدرة على الاندفاع، بتلك المثابرة، وهي سمة متجذرة بعمق في خلفي وخليفتي بليز متروويلي. إنها ضابطة استخبارات حتى النخاع، بخبرة تمتد لربع قرن في هذا المجال، وهي تفهم جوهر التجسس. لكن أكثر من ذلك، فهي تدرك كيف يمكن للتكنولوجيا أن تمكّن التجسس البشري. لقد أمضت أربع سنوات كـ “Q”، لم تكتف خلالها بتشكيل نهجنا تجاه التقنيات سريعة التطور مثل الذكاء الاصطناعي، بل أيضا قدمت تقنيات مبتكرة لمشغلي العملاء، مستندة إلى فهمها العميق للاستخبارات البشرية.
وعلى هذا الموضوع، أي الاستخبارات البشرية أو HUMINT، أود أن أختتم كلمتي. أعود إلى هذا الموضوع مرارا في خطاباتي لسبب وجيه. نحن نجند وندير عملاء سريين. هذا ما نقوم به.
في براغ، دعوت الروس المحبطين والمستائين من أجندة بوتين إلى أن يتجسسوا معنا، تماما كما فعل أجدادهم وآباؤهم. وبفضل شجاعتهم، وشجاعة عملاء آخرين حول العالم، يتمكن وزراؤنا في كثير من الأحيان من اللعب بأوراقهم وهم يعرفون على الأقل بعضا مما في يد الطرف الآخر، مما يعزز قدرتهم على بناء عالم قائم على القواعد والاستقرار والديمقراطية.
يظن كثير من الناس أنهم يعرفون أشهر عملائنا. لكن لا أنا، ولا أي رئيس آخر، سنؤكد أسماءهم أبدا. في الواقع، بسبب وعدنا الملزم، فإن معظم عملائنا الأكثر تأثيرا سيمرون عبر التاريخ دون وجه أو اسم أمام العامة، لكنهم سيُحتفل بهم بهدوء داخل «M16» من قبل أولئك القلة، حتى داخل الجهاز نفسه، الذين يعرفونهم.
بينما أتنحى، أتأمل كم تغير العالم خلال مسيرتي كضابط استخبارات. من الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي إلى الحرب الساخنة لبوتين على الأرض الأوروبية؛ من أبو نضال إلى أحداث 11 سبتمبر؛ إلى صعودنا في مواجهة التهديد؛ من عالم تناظري متعدد الجوازات إلى المراقبة الشاملة الآن؛ لقد تغير عالم التجسس.
لكن التغيير موجود في كل مكان. في الجغرافيا السياسية، في مناخنا، وفي الثورة التكنولوجية. في المخاطر والخصوم الذين نواجههم. التغيير ثابت.
وبالطبع، الرؤساء أيضا بحاجة إلى التغيير. أشعر بثقة هائلة أن خَلَفي “Q” — التي ستصبح قريبا “C” — بينما تبقى وفية للماضي، لقيمنا ولمهمتنا، تمتلك أيضا النظرة الجديدة اللازمة لمواجهة تحدي التغيير. بعد ما يقرب من أربعة عقود في الخدمة العامة، أعلق عباءتي الآن، وأعيد خنجري الخيالي إلى غمده، وأسلم قلمي الأخضر الشهير. قيادة «M16» كانت امتياز حياتي. لا توجد منظمة مثلها في العالم. شعبنا، شركاؤنا، مهمتنا، النزاهة التي نقوم بها بعملنا، كلها لا مثيل لها. أغادر وأنا أعلم أن المهمة مستمرة، وأن قدراتنا قوية، وأننا في أيد أمينة جدا.
وأنا أدخل الفصل التالي من حياتي، لدي فرصة للتوقف، والتأمل، والتفكير في أي رحلة شخصية استثنائية كانت. لقد قال جورج سمايلي، رئيس الجواسيس الأسطوري عند جون لو كاريه: “هناك لحظات تتكون من أمور أكثر من أن تُعاش في الوقت الذي تحدث فيه”. أتطلع إلى أن أتأمل في كل تلك الأمور.
=========================================
«M16» هو جهاز الاستخبارات السرية البريطاني (Secret Intelligence Service – SIS)، المسؤول عن جمع المعلومات الاستخباراتية من خارج بريطانيا لصالح الأمن القومي والسياسة الخارجية. وهو أحد الأركان الثلاثة الرئيسية لمجمع الاستخبارات البريطاني (UK Intelligence Community – UKIC)، إلى جانب جهاز الأمن الداخلي «MI5» المسؤول عن مكافحة التجسس والإرهاب داخل المملكة المتحدة، ووكالة الاتصالات الحكومية «GCHQ» المختصة بالاستخبارات الإلكترونية. يعمل «M16» تحت إشراف وزارة الخارجية، ويركّز على العمليات السرية، إدارة العملاء، والتحليل الاستخباراتي الخارجي.
«C» هو اللقب التقليدي لرئيس جهاز الاستخبارات السرية البريطانية «M16». يعود استخدامه إلى أوائل القرن العشرين عندما كان السير مانسفيلد سميث-كامينغ أول مدير للجهاز، وكان يوقّع مراسلاته بحرف C بالحبر الأخضر، فأصبح الحرف مرادفا للمنصب حتى اليوم، ولا يزال تقليد التوقيع بالقلم الأخضر من قبل رئيس الجهاز قائما حتى يومنا هذا أيضا.
“Q” هو اللقب المستخدم داخل الجهاز للشخص المسؤول عن الجانب التقني وتطوير الابتكارات التكنولوجية التي تدعم عمليات التجسس البشري. الدور يشمل تزويد الضباط والعملاء بأدوات متقدمة، من الاتصالات السرية إلى التقنيات الرقمية الحديثة، لضمان تفوق «M16» في مواجهة خصومه.
جورج سمايلي شخصية خيالية ابتكرها الروائي البريطاني جون لو كاريه. يُقدَّم كسيد الجواسيس البريطاني، يتميز بالذكاء الهادئ ومهارات التحليل النفسي العميق، وظهر في عدد من أشهر روايات التجسس مثل Tinker Tailor Soldier Spy و Smiley’s People. أصبح رمزا أدبيا يجسد صورة الجاسوس الواقعي البعيد عن البهرجة الهوليوودية.
جون لو كاريه الاسم الأدبي للكاتب البريطاني ديفيد كورنويل (1931–2020)، أحد أهم روائيي التجسس في القرن العشرين. عمل سابقا في «M16» و«MI5»، مما أضفى واقعية على أعماله. تناول في رواياته صراع الحرب الباردة، وأثر الصراع الاستخباراتي على الأفراد، وصار مرجعا أدبيا وثقافيا في فهم عالم المخابرات.