في أعقاب الحرب العالميّة الثانية، كانت السياسة الأمريكيّة مُنصبّة على هدف إعادة إعمار أوروبا من خلال ما عُرف آنذاك بـ "خطّة مارشال". وقد كان المكوّن الرئيسيّ في تلك الخطة "أمركة" أوروبا عبر زيادة اعتمادها على النفط بدلا من الفحم، الذي نُظر إليه كمصدرٍ للتهديد السياسي، وتحديدا لجهة تنظيم عمّال المناجم الأوروبيين وإمكانيّة تأثرهم بالأفكار الشيوعيّة.
وكانت خطّة "مارشال" تقتضي أن يجري تزويد أوروبا بالنفط بدون أن يمسّ ذلك احتياطيّات الولايات المتحدة من هذه السلعة الثمينة. ولمّا كانت آبار النفط في المنطقة العربيّة لا تزال حديثة العهد بالإنتاج ولم يجر استغلالها على نحو كثيف بعد، فقد كانت تُمثّل مصدر النفط الموعود للخطة الأمريكيّة. في تلك اللحظة، ظهر نظام الطاقة العالمي الذي نعرفه اليوم، حيث كان المولود الشرعيّ لزواج النفط العربيّ بخطّة "مارشال" الأمريكية.
كان نقل النفط العربيّ من منابعه في الخليج إلى أوروبا بحاجة إلى آلية لوجستيّة بطبيعة الحال، وقد تفتقت العقليّة الأمريكيّة عن طريقة لتحقيق هذا الأمر، وذلك عبر مدّ أنبوب بطول حوالى 1700 كيلو متر من منطقة بقيق شرق السعوديّة إلى ميناء صيدا بلبنان على البحر المتوسط مرورا بالأردن وسوريا، وقد حمل الأنبوب اسم "تابلاين"، وكان في حينها أكبر مشروع أنابيب نفط في العالم، حيث شارك في تشييده 16000 عامل، واُستخدم فيه 200 ألف أنبوب. بدأ الـ "تابلاين" عمله في العام 1950، وقد بلغت طاقته 500 ألف برميل يوميّا.
من وجهة النظر الأمريكيّة، لم يكن مدّ الأنبوب حلا لوجستيّا لمشكلة سياسيّة في أوروبا فحسب، بل وفي منطقة الهلال الخصيب أيضا، ذلك أن مُخططي السياسة الأمريكيّة رأوا أنه يمكن توزيع جزء من عوائد النفط المنقول عبر الأنبوب على البلدان الذي يمرّ فيها، والتي كانت قد استقلّت للتو. وكان هذا التوجّه يرمي بالدرجة الأولى إلى خلق حالة من الاستقرار في دول الطوق بعد كارثة ضياع فلسطين، واستكمال إخراج المنطقة من دائرة النفوذ البريطاني.
وقد كان مشروع "التابلاين" مهمّا للمصالح الأمريكيّة إلى حدّ أنه حين رفضت الحكومة والبرلمان السوريين الموافقة على مد الأنبوب في الأراضي السورية، قامت وكالة الاستخبارات المركزيّة (CIA) بتدبير انقلاب عسكريّ عام 1949 أطاحت فيه بالحكومة وجاءت بالعقيد حسني الزعيم الذي مرّر الاتفاقية، وكان ذلك أول انقلاب عسكريّ في تاريخ سوريا والمنطقة.
في أعقاب سقوط نظام بشار الأسد، عادت فكرة مدّ أنبوب لنقل الغاز القطريّ إلى أوروبا عبر سوريا إلى التداول مجددا. فكما تكشف تجربة الـ "تابلاين"، تتمتّع سوريا بموقع جغرافي مثاليّ لهذا النوع من المشروعات. لكن الواقع اليوم ليس هو واقع الخمسينيّات، وفكرة أنبوب الغاز هذه لم تكن حين طُرحت قبل ما يزيد على عقدٍ من الزمن فكرة ممكنة وهي لا تزال كذلك حتى بعد سقوط النظام.
فدولة قطر حين اختارت تطوير موارد الغاز لديها نهاية الثمانينيّات، حسمت أمرها بتصدير هذه الموارد بصورتها المُسالة (LNG) عبر الناقلات البحريّة، وأسواقها الرئيسيّة اليوم في آسيا لا في أوروبا، حيث تُصدّر 80% من إنتاجها من الغاز المُسال للصين واليابان وكوريا الجنوبيّة.
ومن جهة أخرى، فقد خلقت الحرب الأوكرانيّة واقعا جديدا في القارة الأوروبية عنوانه استحواذ الولايات المتحدة على حصة كبيرة من سوق الغاز الأوروبي، حيث باتت أمريكا المزود الثاني لهذه السلعة للقارة العجوز بعد النرويج، وهي تسعى لأن تزيد حصتها هذه في المستقبل القريب، وبالتالي فهي لن تشجع على أي مشروع ينافسها على هذا الصيد الثمين.
يُضاف إلى ذلك اعتبارٌ أعتقد أنه الأكثر حسما وأهمية، وهو الاعتبار السياسي-اللوجستي. فمد خطّ أنابيب على طول هذه المسافة، و في منطقة تعجّ بكل المشكلات الأمنيّة والسياسيّة، هو أشبه برمي مليارات الدولارات في البحر. إذ لا يمكن تخيّل أن الدول المعنيّة ستغامر بربط مقدّراتها الاقتصاديّة الهامة وقطاعات الصناعة والكهرباء لديها بأنبوب يقع طوال الوقت تحت رحمة وابتزاز الميليشيات وعصابات المخدرات والشباب أصحاب المزاج السيء ممّن يملأون جغرافيا منطقتنا الحبيبة غربا وشرقا.