مع اقتراب دخول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، توجهت الأنظار إلى إيران مُجددا. فكما بات واضحا للعيان، قاد تصاعد الحرب الإسرائيليّة على لبنان في الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام المنصرم إلى تغيّرات دراماتيكيّة في منطقة الشرق الأوسط، وقد توجت هذه التغيّرات بسقوط نظام بشار الأسد في دمشق. بالمعاني الاستراتيجيّة العريضة، مثّل سقوط الأسد ضربة قاسية وغير مسبوقة للاستراتيجيّة الإيرانيّة التقليديّة القائمة على "الدفاع الأمامي" والمرتكزة إلى نشر ودعم شبكة من الميليشيات المسلحة التي يُمكن تفعيلها ضدّ إسرائيل وحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة في حال تعرّض إيران لهجومٍ عسكريّ مباشر. فهذا السقوط حرم طهران من قاعدتها العسكريّة المتقدمة القريبة من حدود إسرائيل، لكنّ الأهم من ذلك، أنه قطع طريق الإمداد العسكريّ لحزب الله في لبنان، الذي يُعد الحلقة الأقوى في شبكتها العسكريّة المنتشرة في المنطقة.

مع انهيار نظام الردع التقليديّ لإيران، أو تآكله بشكل كبير، فإنّ إمكانيّة لجوء طهران لخيار الردع النووي بات خيارا تجري مناقشته بجديّة في الأوساط الإيرانية والغربيّة على حدّ سواء. وقد نقل موقع "إكسيوس" الأمريكيّ مؤخرا  أن مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان قدّم للرئيس جوزيف بايدن مجموعة سيناريوهات لمهاجمة منشآت نووية بإيران إذا تحركت الأخيرة لامتلاك سلاح نووي قبل 20 يناير/كانون الثاني المقبل، أي موعد دخول ترامب إلى المكتب البيضاوي.

أول أمس، نشرت مجلة "الشئون الخارجيّة" الأمريكيّة مقالا مطوّلا كتبه ريتشارد نيفيو، دعا فيه إلى تجريب المسار الدبلوماسيّ للمرة الأخيرة مع إيران من أجل التوصل إلى اتفاق جديد يمنع استحواذها على قنبلة نووية، مناقشا باستفاضة، العقابيل السلبية وكذلك المزايا المحتملة لتوجيه ضربة عسكريّة أمريكية للمنشآت النووية الإيرانيّة في حال فشل هذا المسار الدبلوماسيّ. وقد ارتأيتُ ترجمة هذ المقال لأنه يمثل برأيي رسالة سياسية أكثر من كونه قطعة من التحليل السياسيّ المُعمّق، فكاتب المقال سبق له أن شغل منصب نائب المبعوث الخاص لإيران (2021)، ونائب المنسق الرئيسي لسياسة العقوبات في وزارة الخارجية الأمريكية (2013-2015)، ومدير شؤون إيران في مجلس الأمن القومي الأمريكي (2011-2013)، وهو واحدٌ من أبرز الخبراء الأمريكيين المعروفين في مجال العقوبات، حيث أنه مؤلف كتاب مهم بعنوان "فن العقوبات" الذي صدر عن دار جامعة كاليفورنيا للنشر في العام 2017.

الترجمة:

على مدى عقدين من الزمن، دعت الأصوات المتشددة في واشنطن الولايات المتحدة إلى مهاجمة البرنامج النووي الإيراني. وعلى مدى عقدين من الزمن، رفضت  هذه الدعوات، وذلك لأن الحجة ضد العمل العسكري كانت مقنعة ومباشرة في معظم تلك الفترة. كانت القدرات النووية الإيرانية غير ناضجة. وكان المجتمع الدولي متحدًا في ضرورة أن تثبت طهران أن نواياها النووية كانت سلمية بالكامل، وبالتالي فقد كان متحدا بشكل معقول في فرض العقوبات على البلاد عندما أصبح واضحًا أن نواياها تلك لم تكن كذلك. فرضت هذه العقوبات تكاليف عالية دفعت الجمهورية الإسلامية إلى الدخول في مفاوضات.

لا تزال هناك العديد من الأسباب الجيدة لعدم قصف إيران. الهجوم على البلاد سيضيف المزيد من الفوضى وعدم الاستقرار إلى الشرق الأوسط. وهو سيستهلك موارد أمريكية كبيرة في وقت ترغب فيه واشنطن في التركيز على مناطق أخرى. وقد يقوض هجومٌ كهذا مصداقية الولايات المتحدة إذا فشلت الهجمات. وفرص الفشل عالية: حتى الضربات الأكثر دقة قد تؤجل فقط التسلح النووي الإيراني. الحل الأفضل والأكثر استدامة للمسألة يظل الاتفاق الدبلوماسي.

لكن اليوم، لم تعد الحجة ضد العمل العسكري بنفس الوضوح. البرنامج النووي الإيراني لم يعد في بداياته. في الواقع، تمتلك البلاد تقريبًا كل ما تحتاجه لصنع سلاح نووي. وفي الوقت نفسه، أصبحت إيران أكثر ضعفًا وأكثر حاجة إلى رادع جديد مما كانت عليه قبل بضع سنوات، فشبكتها من الشركاء في حالة من التفكك، وقد استهدفت إسرائيل عدة أهداف داخل حدود إيران في عام 2024. كما أن المجتمع الدولي أصبح منقسمًا الآن بشأن ما إذا كان يجب ممارسة الضغط على النظام الإيراني. لا تزال هناك عقوبات قاسية على إيران، لكنها تُنتهك باستمرار من قبل الصين والهند وروسيا، من بين آخرين. قد يكون من الممكن استئناف تنفيذ العقوبات بالكامل، لكن ذلك سيتطلب تعاون الصين بشكل خاص في وقت تواجه فيه بكين عداءً من كلا الحزبين في واشنطن. وعلاقة روسيا بإيران أيضًا أقوى من أي وقت مضى منذ عقود، مدفوعةً بروابط الدفاع المشتركة. حوافز طهران للحصول على السلاح النووي لم تكن يومًا أكبر مما هي عليه الآن، ومن المحتمل أن تكون تكاليفها المتوقعة قد تراجعت.

نظرًا لمخاطر العمل العسكري، يجب على الولايات المتحدة أن تقوم بمحاولة أخيرة وجادة للتفاوض على وقف البرنامج النووي الإيراني في بداية إدارة ترامب. ولكن ما لم تكن مستعدة للعيش في العالم الذي ستخلقه الأسلحة النووية الإيرانية، فقد لا يكون أمامها خيار سوى مهاجمة إيران، وقريبًا. الحكمة تقتضي أن تقوم واشنطن بتخطيط العمل العسكري الآن وضمان أن إيران تدرك أن هذا التهديد حقيقي، حتى في الوقت الذي تسعى فيه لمتابعة المسار الدبلوماسي مرة أخرى.

سلبيات الصراع

هناك العديد من الأسباب لإعطاء الدبلوماسية فرصة أخيرة. أولاً وقبل كل شيء، لا يعرف المسؤولون الأمريكيون ما إذا كان الهجوم العسكري سينجح. قد تمتلك الولايات المتحدة وشركاؤها الوسائل لتدمير جميع المنشآت النووية الرئيسية في إيران. ولكن هذا لا يضمن القضاء على جميع المواد النووية في البلاد، أو في الواقع جميع المعدات النووية، حيث قد يتم إخفاء بعضها في مواقع مخبأة في أعماق الأرض. قد تقوم إيران، سواء استباقًا للهجوم أو استجابة سريعة للضربات الأمريكية، بتحويل بعض اليورانيوم المخصب إلى مواقع سرية، مما يحفظ لها ما يكفي من المواد لإنتاج قنابل متعددة بسرعة.

إذا تم الهجوم على إيران من قبل قوة نووية معلنة - وهي الصفة التي تنطبق على الولايات المتحدة - فستتحفّز طهران بشكل جديد لتطوير رادعها الخاص وقد ترى أن لديها شرعية دولية أكبر للقيام بذلك. ومع امتلاكها لليورانيوم المخصب، ستكون قد حصلت بالفعل على المكون الأساسي. العناصر الأساسية لصنع القنابل معروفة لإيران، وبالتالي ستكون في وضع يسمح لها بالتجميع السريع. ولهذا السبب، ركز الاتفاق النووي لعام 2015، أو خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA)، على منع الحصول على المواد النووية بدلاً من المعدات المخصصة للأسلحة أو الصواريخ.

في الواقع، يعني تطوير إيران لخبراتها النووية على مدار عقود أن البلاد قد تبني سلاحًا حتى إذا جعلت الضربات العسكرية جميع معداتها وموادها الحالية غير قابلة للاستخدام. ستستغرق استعادة برنامجها النووي وقتًا، ولكن الهجوم الذي يدمر نطنز والمواقع الأخرى ليس نهاية المشكلة مثلما لم يكن موت الفيزيائي الإيراني محسن فخري زاده، في عام 2020، أو الهجوم على موقع إنتاج أجهزة الطرد المركزي الإيرانية في عام 2021، نهاية للبرنامج. لم ينتهِ البرنامج النووي العراقي بعد قصف مفاعل أوزيراك في العراق، في عام 1981؛ بل إن البرنامج النووي العراقي قد تكثف في السنوات التالية. قد يكون قصف مفاعل الكُبر في سوريا، في عام 2007، أكثر نجاحًا، ولكن غرق البلاد في الحرب الأهلية يجعل من الصعب تقييم الآثار طويلة المدى للضربة على اتخاذها القرار بشأن المسألة النووية.

لإخماد الطموحات النووية الإيرانية بشكل دائم، قد تضطر الولايات المتحدة إلى مهاجمة إيران بشكل دائم أو شن هجوم أكبر بكثير، هجومٌ يستهدف عناصر من قوات الأمن أو النظام في البلاد. ستكون كلتا المهمتين أطول بكثير وأكثر مشقّة من حملة محدودة، ومن الحماقة الافتراض بأن واشنطن تمتلك الالتزام الصارم لإتمام أي منهما. وهذا يعني أن الضربات على إيران ستثير مشاكل في مصداقية القادة الأمريكيين، خاصة إذا توقفت واشنطن في النهاية عن هجماتها وأنتجت طهران سلاحًا نوويًا.

علاوة على ذلك، بمجرد أن تبدأ الضربات، من الصعب تصور تحول سريع نحو الدبلوماسية، باستثناء تغيير في الحكومة الإيرانية. ولن يضمن تغيير النظام نفسه نتيجة أفضل، سواء بالنسبة للبرنامج النووي أو الأنشطة السلبية الأخرى للنظام. حتى إذا انهار النظام الإيراني، قد يتم استبداله بنظام أكثر تطرفًا. قد تنحدر إيران إلى الفوضى. قليلون هم الذين سيندمون على نهاية الحكومة الحالية في البلاد، خاصة أولئك الذين تعرضوا للقمع على يدها لمدة 40 عامًا. ومع ذلك، هناك سبب يجعل الإيرانيين أيضًا يشعرون بالقلق حيال مخاطر عدم استقرار النظام وقد كانوا كذلك منذ مشاهدة الربيع العربي.

بغض النظر عن النتيجة، فإن الهجمات على إيران ستستنزف موارد الولايات المتحدة. إن التقارير المقلقة بشأن نقص الذخيرة الأمريكية ونقص صواريخ الدفاع الاعتراضية لا تزال ماثلة أمامنا. ستأتي النفقات الإضافية في وقت غير مناسب لواشنطن. الوضع الدولي اليوم معقد. تواصل روسيا شن الحرب ضد أوكرانيا. هناك خطر من أن تغزو الصين تايوان. وتقريبًا كل منطقة الشرق الأوسط غير مستقرة. ستكون الحملة العسكرية الجديدة ضد إيران عبئًا خاصًا على الولايات المتحدة إذا كانت أوروبا، والجنوب العالمي، وشركاء واشنطن العرب ضدها أو في أفضل الأحوال مشككين في العمل العسكري الأمريكي، وهو ما قد يكون الحال بالفعل.

صناعة الصفقة

تعني التكاليف العالية للهجوم على إيران أنه يجب على الولايات المتحدة محاولة استخدام الدبلوماسيّة مرة أخرى. وهناك أسباب للتفاؤل بأنه، على الرغم من الوضع المتقلب، يمكن للبلدين التوصل إلى اتفاق. الدبلوماسية، في نهاية المطاف، لها سجل حافل من النجاح عندما يتعلق الأمر بإبطاء الطموحات النووية الإيرانية. فقد أدت المبادرات الأوروبية في أوائل العقد الأول من الألفيّة الجديدة إلى تعليق الأنشطة النووية الإيرانية لفترة قصيرة، وعندما فشلت هذه المحاولات في التجذّر على المدى الطويل، أُجبرت روسيا والصين على دعم العقوبات الأممية. وفي عام 2013، أوقفت "خطة العمل المشتركة" التقدم النووي الإيراني للسماح بسنتين من المفاوضات التي أسفرت في النهاية عن الاتفاق النووي الإيراني (JCPOA). قام الاتفاق بتجميد أجزاء كبيرة من البرنامج النووي الإيراني وأخضعه لمراقبة دولية أكثر صرامة.

كل واحدة من هذه المبادرات فشلت في النهاية. ولكن على الرغم من أن إيران كانت مسؤولة عن إنهاء اتفاقيات التعليق التي تم التفاوض عليها من قبل الأوروبيين، فإن طهران امتثلت لـ (JCPOA)، وهي حقيقة اعترفت بها حتى إدارة ترامب الأولى في تقاريرها الإلزامية إلى الكونغرس حول الاتفاق. انهار الاتفاق بسبب انسحاب الرئيس المنتخب دونالد ترامب منه في ولايته الأولى. ولكن ترامب في وضع جيد لتشكيل بديل لأنه ألغى الاتفاق الأخير. توقفت المحادثات لإعادة الولايات المتحدة وإيران إلى الامتثال الكامل والمتبادل لـ (JCPOA) في عامي 2021 و2022 بسبب عدم ثقة الإيرانيين في أن الولايات المتحدة ستلتزم بالاتفاق بعد انتقال السلطة، ولأن الولايات المتحدة رفضت النظر في نهج دبلوماسي آخر. ومع ذلك، إذا وافق ترامب نفسه على اتفاق جديد، فقد تعتقد إيران أنه سيكون قائمًا. لقد دعم معظم الديمقراطيين الدبلوماسية، وإذا وافق ترامب، فقد يدعمها الجمهوريون أيضًا.

على الرغم من أن الاتفاق ممكن ومرغوب فيه، فإن التوصل إليه سيكون صعبًا. أظهر ترامب اهتمامًا بما يصفه بـ "اتفاق بسيط" لمنع إيران من الحصول على أسلحة نووية، ولكن يجب أن تكون شروط أي اتفاق معقدة حتى يكون لها تأثير. سيتعين على طهران وواشنطن التوصل إلى اتفاق حول مدى القيود التي يجب فرضها على البرنامج النووي الإيراني، وما إذا كان يجب إنشاء قواعد بشأن سلوك إيران الإقليمي، وما هي إعفاءات العقوبات والضمانات الأمنية التي قد تتلقاها إيران. سيتطلب تحديد هذه القضايا مفاوضات موسعة -خاصة لضمان أن يكون الاتفاق مستدامًا وقابلًا للتحقق وقابلًا للتنفيذ- وسوف يتطلب مشاركة المزيد من الأطراف إذا كانت القضايا الإقليمية ستكون محور التركيز. المحادثات متعددة الأطراف صعبة في أفضل الأوقات. إن الحرب الروسية في أوكرانيا والتوترات بين بكين وواشنطن هي مجرد اثنين من المصادر المزعجة التي تجعل مثل هذه العملية صعبة التنسيق اليوم.

الضربة الأولى

مع ذلك، هناك سبب للأمل في أنه مع مرور الوقت وباستخدام الإبداع الكافي، يمكن لطهران وواشنطن التوصل إلى نوع من الاتفاق. ولكن على الرغم من النكسات الاستراتيجية والضعف الذي تعاني منه إيران، والذي يعد أساسًا نتيجة لهجمات إسرائيل على وكلاء طهران وعلى إيران نفسها في أكتوبر، فإن تقدم إيران النووي قد جعل الوقت مورداً نادراً. إذا تبنت الولايات المتحدة نهج "الضغوط القصوى" لتهيئة إيران للمحادثات المستقبلية، فقد ترد إيران بإخفاء موادها النووية، وبناء قنبلة، أو الانسحاب من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، أو كل ذلك. إذا فشلت محاولات التوصل إلى اتفاق، يجب على الولايات المتحدة أن تكون مستعدة لاستخدام قوتها العسكرية.

لن تشكل الأسلحة النووية الإيرانية تهديدًا وجوديًا مباشرًا للولايات المتحدة في المدى القريب. فالقوة النووية الخاصة بواشنطن ستفوق بكثير أي مخزون إيراني، ولا تزال إيران تطور قدرتها في مجال الصواريخ الباليستية العابرة للقارات. ومع ذلك، إذا قامت إيران بتطوير الأسلحة النووية، فإنها ستشجع الآخرين في الشرق الأوسط على القيام بذلك أيضًا، مما سينتج عنه سباقات تسلح مستقبلية تهدد بالحرب النووية. حتى وإن لم تقم إيران بنقل الأسلحة النووية إلى الجماعات الوكيلة -على الرغم من أن قرار إيران بتزويد الحوثيين وحزب الله بالصواريخ يجعل نقل الأسلحة النووية يبدو أكثر احتمالية- فإن ترسانتها النووية قد تصبح هدفًا للجماعات الإرهابية أو الإجرامية. كما أن العديد من شركاء الولايات المتحدة سيتواجدون ضمن نطاق نيران إيران، كما ستكون إمدادات موارد الطاقة العالمية على المحك. وبالتالي، فإن العالم الذي ستمتلك فيه إيران الأسلحة النووية سيكون أكثر خطورة بالنسبة للولايات المتحدة وشركائها.

سيأتي الهجوم على البرنامج النووي الإيراني مع فوائد استراتيجية تتجاوز مجرد منع خصم خطير من أن يصبح نوويًا. على سبيل المثال، ستزيد الضربات من إرهاق موارد طهران المحدودة بالفعل. فإيران، التي ستتعرض لضربة أخرى، ستواجه صعوبة أكبر من أي وقت مضى في تهديد مصالح الولايات المتحدة. سيتعين عليها الموازنة في وقت واحد بين استعادة برنامجها النووي، وإعادة بناء حزب الله، وتجديد قواتها الصاروخية، وإدارة مشاكلها الاقتصادية العامة، كل ذلك تحت وطأة العقوبات. ببساطة، سيتعين على إيران اتخاذ قرارات حقيقية بشأن اتجاهها الاستراتيجي. ستكون حينها قد فقدت جميع أنظمة الردع الرئيسية لديها، ولن تتمكن من اللجوء إلى الأسلحة النووية كخيار سريع ورخيص لاستعادة تلك الأنظمة.

إن إضعاف إيران من شأنه أن يعود بفوائد على الشرق الأوسط. قد يحصل النظام الإيراني على دعم شعبي محدود بعد الهجمات الأمريكية، ولكن حسب شدتها ونطاقها وأي أضرار جانبية غير مقصودة، قد يرى الإيرانيون العاديون في الهجمات فرصة للضغط على النظام من أجل التغيير. يبدو أن الهجوم الإسرائيلي على إيران في أكتوبر 2024 لم يولد تأثيرًا شعبيّا ملحوظًا، مما يشير إلى أن الهجوم الأمريكي قد لا يؤدي إلى ذلك أيضًا. علاوة على ذلك، سيكون لدى طهران وقت وموارد أقل لمضايقة جيرانها أو تقويضهم بعد الهجوم الأمريكي، وسيكون لديها حوافز أكبر للعمل بدلاً من ذلك نحو ترتيبات أمنية إقليمية بناءة. كما أن نكساتها ستقلل من الضغط على الدول الأخرى للحصول على ترسانات نووية خاصة بها.

أخيرًا، الهجوم على البرنامج النووي الإيراني قد يساعد في تعزيز مصداقية الولايات المتحدة، على الرغم من أن الفشل قد يؤدي إلى إضعافها، فقد طورت الدول في العقدين الماضيين شكوكًا حول التزام واشنطن بمواجهة التهديدات. والفشل هنا يتشاركه الحزبان الديمقراطي والجمهوري على السواء. إدارة أوباما وضعت خطًا أحمر في استخدام الرئيس السوري السابق بشار الأسد للأسلحة الكيميائية ثم رفضت تطبيقه. ترامب لم يرد على العديد من هجمات إيران على القوات الأمريكية والبنية التحتية للطاقة لحلفاء الولايات المتحدة، على الرغم من تعهداته بالتحرّك. إذا رأت الحكومة الأمريكية الآن إيران تمتلك الأسلحة النووية رغم الوعود المتكررة بعدم السماح لها بذلك، فإن الدول المنافسة ستطرح المزيد من الأسئلة حول قوة التزامات الولايات المتحدة، مما يعرض أصدقاء واشنطن وحلفائها لخطر كبير. من المؤكد أن ضرب إيران ليس الطريقة الوحيدة (أو ربما حتى الأفضل) لتعزيز التصورات عن قوة أمريكا. لكنها يمكن أن تلعب دورًا في هذا الصدد.

هذا يفترض، بالطبع، أن الهجمات الأمريكية ستذهب بما فيه الكفاية لتحقيق النجاح في منع التسلح النووي الإيراني. يمكن للولايات المتحدة، بلا شك، تدمير المنشآت النووية الإيرانية المعروفة، لكن ذلك وحده لن يمنع إيران من الحصول على الأسلحة النووية. مثل هذا الإنجاز من المحتمل أن يتطلب أكثر من جولة واحدة من الضربات، ووجودًا عسكريًا أمريكيًا طويل الأمد، واستعداد الولايات المتحدة لتوسيع نطاق هجماتها لتشمل أهدافًا تتعلق بصناع القرار الإيرانيين. وبالتالي، من المحتمل أن تحتاج الولايات المتحدة إلى شن ضربات تركز على أصول النظام أو القوات الأمنية، حتى وإن أدت إلى حالة من اللاستقرار الداخلي، ويجب أن تفكر الآن في كيفية تصميم تلك الضربات لتقليل العواقب السلبية لهذه الحالة. قد يبدو الحديث غير الجاد عن الضربات "البسيطة"، أو كيف يمكن لواشنطن حل تحدٍ استمر لعقود عبر عدة غارات قصف، مغريًا. لكن لا يوجد بديل لتقييم جاد وصادق ومستمر حول أنواع الهجمات التي ستنجح، ومدة استمرارها، وتكاليفها، وكيفية تجنب أسوأ العواقب.

أزمة هادئة

إن سلطة واشنطن على الحسابات النووية لطهران هي سلطة محدودة في نهاية الأمر. لا أحد في الولايات المتحدة يعرف كيف ينظر المسؤولون الإيرانيون إلى وضعهم الحالي. قد تكون العودة إلى العقوبات القصوى هي الحافز لتحويل البرنامج النووي إلى أسلحة. لكن الضربات التي تلقتها إيران بالفعل من إسرائيل، جنبًا إلى جنب مع اقتصادها المتعثر، قد تكون كافية بالفعل لدفعها إلى التوجه نحو الأسلحة النووية في وقت تختاره هي. يجب على صانعي السياسات الأمريكيين أن يبدأوا في بناء حساباتهم بأن الأسلحة النووية الإيرانية هي أمر لا مفر منه يجب إدارته، لكن هناك فرصة محدودة لتجنب هذه النتيجة.

لذا حان الوقت لكي تنظر واشنطن في اتخاذ خطوات غير تقليدية. عندما تفاوضت الولايات المتحدة على خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA)، كانت قد قدرت أن الحفاظ على إيران على مسافة سنة واحدة من الـ "Breakout Period" -وهو الوقت المطلوب لإنتاج ما يكفي من المواد النووية القابلة للاستخدام لصناعة سلاح نووي- كان ذلك أمرًا ضروريًا لمنح الولايات المتحدة وشركائها الفرص لإيجاد مسارات دبلوماسية، وإذا لزم الأمر، لتعبئة العالم وراء استجابة عسكرية. لكن ذلك العازل قد اختفى منذ فترة؛ إذ بدأت إيران في التخصيب بنسبة 60% من اليورانيوم منذ عام 2021. إن الهدوء النسبي في الأزمة النووية الحالية بين إيران والولايات المتحدة يعكس أكثر طبيعة الحروب المشتعلة في أماكن أخرى بدلاً من ضبط النفس من قبل طهران أو دبلوماسية فعالة من قبل واشنطن. لا يوجد ضمان أن تظل الأزمة هادئة لفترة أطول. إن حقيقة أن استخدام القوّة العسكرية قد يكون ضروريا لمنع وصول إيران للسلاح النووي يجب أن ينظر إليه كفشل لسياسة كلا الحزبين الديمقراطي والجمهوري. إن عواقب الضربة العسكريّة خطيرة، لذا فإن المسار الأكثر أمانا هو محاولة التفاوض مرة أخرى. لكن إذا فشلت هذه المحاولة، يجب على واشنطن أن تكون مستعدة.

(Visited 170 times, 1 visits today)

Leave A Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *