نشرت مجلّة "الشئون الخارجيّة" الأمريكيّة في عددها الأخير مقالا مطوّلا لمايكل هورويتز عن حروب المستقبل. شغل هورويتز بين عامي 2022-2024 منصب مساعد نائب وزير الدفاع الأمريكيّ لشئون تطوير القوّة والقدرات الناشئة. في مقاله الذي ترجمته أدناه، يناقش الكاتب العلاقة بين التفوّق العددي، الذي يرى أنه كان أبرز العوامل في الانتصار في الحروب عبر التاريخ، وبين الدقّة، التي يقول يرى أنها نجمت عن الحاجة لمواجهة الكم (الذي يسمّيه في مقاله بـ "الكتلة") بالكيف، وذلك من خلال استغلال عامل التكنولوجيا، وفي ظل ظهور مستجدات كبيرة في الجيوبوليتيك العالمي، كان عنوانها الأبرز انتهاء الحرب الباردة. يُجادل هورويتز في مقاله بأن زمن الفصل بين "التفوّق العددي" (أو الكم) وبين الدقّة (الكيف) قد انتهى، وأننا نعيش في عصر "الكتلة الدقيقة" (أو التفوّق العددي الدقيق). بالنسبة لهورويتز، فإنّ أبرز ملامح هذا العصر هو أن البلدان التي لم تكن تمتلك من موارد القوة العسكريّة سوى الكم، أصبحت تمتلك اليوم أيضا عددا كبيرا من الأسلحة والمنظومات غير المأهولة التي غدى من الممكن إنتاجها بكميّات كبيرة بتكلفة منخفضة على يد لاعبين صغار بسبب انتشار التكنولوجيا على نطاق واسع وانتقالها من الحيز العسكريّ إلى الحيز التجاري (السوق). ويرى الكاتب أن هذا التحوّل من شأنه أن يغير من شكل الحرب وطبيعتها وطبيعة الأدوات المستخدمة فيها، داعيا لأن تأخذ الولايات المتحدة الدروس والعبر من حروب اليوم، من أجل مواكبة هذا التحول وتطوير الأسلحة والأنظمة الدفاعيّة اللازمة للتكيّف معه من أجل كسب حروب المستقبل.
في بداية الحرب في أوكرانيا عام 2022، قامت القوات الأوكرانية بنشر عددٍ قليل من المسيرّات من طراز Bayraktar TB2 المصنوعة في تركيا لضرب أهداف روسية. كانت تلك الضربات الدقيقة بالطائرات المسيّرة إشارة لما سيأتي. وبعد أكثر من عامين على الحرب، لا تزال TB2 جزءًا أساسيًا من ترسانة أوكرانيا، لكنها انضمت إلى مجموعة متنوعة من الأنظمة غير المأهولة الأخرى. تظهر تقنيّات مُشابهة في النزاعات الحالية في الشرق الأوسط. تقوم إيران، وحزب الله في لبنان، والحوثيون في اليمن بإطلاق أنظمة هجوميّة باتجاه واحد (طائرات مُسيّرة محمّلة بالمتفجرات تصطدم بأهدافها) وصواريخ على إسرائيل وعلى حركة الشحن التجاري وعلى البحريّة الأمريكية. ومن جانبها، تستخدم إسرائيل مجموعة من المركبات غير المأهولة في حربها في غزة. كما تستكشف الصين طرقاً لاستخدام الأنظمة غير المأهولة لحصار تايوان ومنع القوى الخارجية من مساعدة الجزيرة في حال وقوع هجوم صيني عليها. أما الولايات المتحدة، فقد أطلقت عدة مبادرات لمساعدتها في نشر أنظمة غير مأهولة بأسعار معقولة وعلى نطاق واسع. في جميع هذه الحالات، فإن التقدم في الذكاء الاصطناعي والأنظمة الذاتية، جنبًا إلى جنب مع الجيل الجديد من التقنيات المتاحة تجاريًا وانخفاض تكاليف التصنيع، يمكّن الجيوش والجماعات المسلحة من إعادة مفهوم "الكثافة" إلى ساحة المعركة.
لآلاف السنين، اعتبر القادة أن "التفوق العددي" -أي امتلاك قوات ومعدات أكثر من الطرف الآخر- أمرًا حاسمًا لتحقيق النصر في المعركة. كان الجيش يتمتع بفرصة أكبر لهزيمة أعدائه إذا استطاع نشر عدد أكبر من الجنود، سواء كانوا مسلحين بالرماح أو الأقواس أو البنادق، أو جالسين في دبابات. هذا المبدأ كان يحدد كيفية سعي الجيوش، وخاصة جيوش القوى العظمى، لتحقيق النصر، من فيالق الرومان في بلاد الغال إلى الجيش السوفيتي على الجبهة الشرقية خلال الحرب العالمية الثانية. إن امتلاك أكبر أسطول بحري مكّن الإمبراطورية البريطانية من السيطرة على البحار، وامتلاك عدد أكبر من الطائرات مكّن الحلفاء من قصف قوى المحور بلا رحمة. وعلى الرغم من أن "التفوق العددي" لم يكن كل شيء -فقد تتمكن جيوش أصغر وأفضل تجهيزًا من إحباط جيوش أكبر وأكثر قوة ظاهريًا- إلا أنه كان تقليديًا العامل الذي يُرجح الكفة في الحروب.
ومع ذلك، شهدت الخمسون عامًا الأخيرة تحولًا بعيدًا عن "التفوق العددي" نحو "الدقة"، وهي ظاهرة تسارعت بعد نهاية الحرب الباردة. اكتشفت جيوش، مثل الجيش الأمريكي، فعالية وكفاءة أكبر في استخدام أسلحة متقدمة ومكلفة يمكنها ضرب الأهداف بدقة في جميع أنحاء العالم. واختار القادة تقليص حجم قواتهم والتركيز بدلاً من ذلك على تعزيز تفوقهم التكنولوجي.
الحروب الحالية والاستثمارات المتواصلة التي تقوم بها الولايات المتحدة والصين تظهر أن "التفوق العددي" يعود مجددًا، ولكن ليس على حساب الدقة. في الواقع، يشهد العصر الحالي للحروب انهيار التمييز الثنائي بين "التفوق العددي" و"الدقة"، وبين الحجم والتطور. يمكن تسميته عصر "التفوق العددي الدقيق". تجد الجيوش نفسها في حقبة جديدة حيث يمكن لعدد متزايد من الفاعلين استخدام الأنظمة غير المأهولة والصواريخ والحصول على أقمار صناعية منخفضة التكلفة وتقنيات متقدمة متاحة تجاريًا. وباستخدام هذه الأدوات، يمكنهم بسهولة أكبر القيام بعمليات مراقبة وتنفيذ هجمات دقيقة ومدمرة. هذه الضرورات بدأت بالفعل في تشكيل الحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط، كما أنها تؤثر على الديناميكيات في مضيق تايوان، وتوجه التخطيط وعمليات الشراء في "البنتاغون".
في عصر "التفوق العددي الدقيق"، ستتميز الحروب إلى حد كبير بنشر أعداد هائلة من الأنظمة غير المأهولة، سواء كانت تعمل بشكل كامل بالذكاء الاصطناعي أو تُدار عن بُعد، من الفضاء الخارجي إلى أعماق البحار. وقد وضعت القوات العسكرية الأمريكية نفسها في موقع الريادة للتكيف مع هذه التغيرات في طبيعة الحروب، ولكنها يجب أن تكون مستعدة لتبني الابتكارات بسرعة وعلى نطاق واسع. الإنجازات الرائدة التي نراها في النزاعات الحالية ما هي إلا تمهيد للطريقة التي ستُخاض بها الحروب في السنوات والعقود القادمة، مع مواجهة الجيوش لضرورات كل من "التفوق العددي" و"الدقة".
السعي من أجل الدقّة
لطالما اعتقدت الدول أن بإمكانها تحقيق النجاح في ساحة المعركة من خلال امتلاك عدد أكبر من الجنود والمعدات والإمدادات مقارنة بخصومها. كانت الفكرة السائدة أن التفوق العددي سيؤدي إلى النصر. لكن في أواخر الستينيات، بدأ هذا المفهوم يتغير. حيث بدأ الجيش الأمريكي يرى في الدقة فضيلة تفوق الكمية. وبدأت القوات الأمريكية بالسعي لتحديد الأهداف وتعقبها وضربها بدقة متزايدة، مما قلل من عدد المنصات والأسلحة اللازمة للعمليات العسكرية، وساعد الولايات المتحدة على الامتثال للقانون الإنساني الدولي من خلال الحد من الأضرار الجانبية المحتملة للضربات.
في السبعينيات، واجهت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون قوات سوفيتية تتفوق عليهم عدديًا. لم يتمكنوا من مضاهاة الاتحاد السوفيتي دبابة بدبابة. كان المحللون العسكريون الأمريكيون يخشون أن يفوز الاتحاد السوفيتي بأي حرب في أوروبا بسبب تفوقه العددي. لمعالجة هذه المخاوف، قدمت الولايات المتحدة برنامجًا يُدعى "Assault Breaker" لدمج التقنيات الناشئة حينها في التخطيط العسكري، بهدف استخدام الصواريخ والقنابل الدقيقة لتدمير القوات السوفيتية. حتى لو حقق السوفييت اختراقًا أوليًا في هجومهم على وسط أوروبا، فإنهم لن يتمكنوا من فتح ثغرات عميقة في خطوط الغرب. ومع أجهزة الاستشعار والأنظمة التوجيهية البدائية والأسلحة بعيدة المدى، تمكنت الولايات المتحدة من بناء قدرة على تدمير الموجات الثانية والثالثة والموجات التالية من القوات السوفيتية في أوروبا.
لم تتحول الحرب الباردة إلى مواجهة ساخنة في أوروبا، لكن قدرات الضربات الدقيقة ظهرت علنًا لأول مرة في حرب الخليج الأولى عام 1991. حيث تابع الناس حول العالم لقطات القنابل الموجهة بالليزر وهي تصيب الدبابات العراقية. مع تراجع المنافسة بين القوى العظمى، وتركيز العالم على الصراعات الأصغر مثل البوسنة وكوسوفو، ثم مكافحة الإرهاب والتمرد في أفغانستان والعراق، أصبحت الدقة العنصر الأهم، حيث كانت معظم العمليات العسكرية تجري بين قوات صغيرة في مناطق مأهولة بالسكان.
وخلال الجزء الأول من القرن الحادي والعشرين، حافظت الولايات المتحدة على تفوقها الكبير في قدرات الضربات الدقيقة. وفي وقت كانت تواجه فيه وزارة الدفاع الأمريكية ارتفاعًا حادًا في تكاليف المركبات الأرضية والطائرات والغواصات والسفن والأسلحة، أقنعت هذه الميزة الجيش الأمريكيّ بإمكانيّة الانتصار من خلال تقليص حجم القوات والتركيز على الكفاءة والدقة بدلًا من الكثافة العددية. اختارت الولايات المتحدة بوعي تقليص حجم جيشها والاعتماد على الدقة. فأصبحت القوة الإجمالية للقوات الجوية وحجم الأسطول البحري أقل بنسبة الثلث تقريبًا مقارنة بما كانت عليه في عام 1965، لكن قوة القصف لكل طائرة وكل سفينة أو غواصة أصبحت أكبر بكثير.
ثنائيّة كاذبة
لقد دارت عجلة الزمن مرة أخرى. لم تعد الولايات المتحدة تتمتع بالتفوق الهائل في قدرات الضربات الدقيقة كما كانت من قبل. فالتكنولوجيا التي تستند إليها هذه القدرات -الذخائر التقليدية، وأجهزة الاستشعار، وأنظمة التوجيه- أصبحت بمرور الوقت أرخص ومتاحة للعديد من الدول والجماعات المسلحة خارج الولايات المتحدة. من أذربيجان إلى كوريا الشمالية، باتت قوات أخرى قادرة على ضرب بعض الأهداف بالدقة والقوة والمدى التي كانت تقتصر يومًا ما على الجيش الأمريكي. لقد استفادت هذه القوات من التقدم الذي أحرزته القطاعات الخاصة في مجالات الذكاء الاصطناعي والتوسع في إتاحة منصات الاستشعار والاتصالات، مثل أنظمة تحديد المواقع العالمية (GPS).
ومع هذا الانتشار الواسع للمعرفة والتكنولوجيا والأسلحة، تتغير طبيعة الحروب. والأهم من ذلك، أن التقدم في التصنيع والبرمجيات أدى إلى خفض تكاليف المعدات الرئيسية، حيث يمكن لطائرة مسيرة تجارية رخيصة، مجهزة بأسلحة وموجهة بواسطة طائرة مسيرة أخرى محملة بأجهزة استشعار، أن تضرب أهدافًا بعيدة بدقة أو تنفذ عمليات مراقبة. ونظرًا لأنها غير مكلفة نسبيًا، يمكن نشر هذه الطائرات على نطاق واسع. بدأت الجيوش تدرك أنها لم تعد مضطرة للاختيار بين الدقة والتفوق العددي؛ بل يمكنها الحصول على الاثنين معًا.
في المصطلحات العسكريّة، تُعدّ هذه الأنظمة "قابلة للاستهلاك"، أي أن تكلفتها المنخفضة نسبيًا تجعل فقدان أي نظام منها غير ذي أهمية كبيرة. وعلى الرغم من أنها أقل تطورًا مقارنة بأكثر الأسلحة تقدمًا التي تنشرها الجيوش الأمريكية أو الصينية -مثل مقاتلة الشبح F-35 أو صاروخ مضاد للسفن بعيد المدى- إلا أن هذه الأنظمة يمكن نشرها على نطاق أوسع بكثير مقارنة بنظيراتها الأكثر تكلفة. وتُعد تكاليفها الفردية منخفضة بما يكفي لجعل قدراتها الإجمالية أكثر اقتصادًا.
لا شك أن هذه الأنظمة الرخيصة والدقيقة لا تجعل الدبابات والمدفعية والعناصر الأخرى للحروب الحديثة قديمة أو غير مجدية. بل إنها تكمل ما سبقها، تمامًا كما فعلت الابتكارات السابقة؛ على سبيل المثال، لم تعنِ بداية الحرب الجوية نهاية استخدام المشاة في المعارك. ستتميز ساحات المعارك المستقبلية بمزيج من الأنظمة المتقدمة التي يتم نشرها بأعداد صغيرة، إلى جانب هذه الأنظمة القابلة للاستهلاك التي ستُنشر بأعداد أكبر بكثير.
لقد حولت هذه الاتجاهات والتقنيات الجديدة الحرب في أوكرانيا إلى "مختبر معارك"، كما وصفها وزير الدفاع البريطاني بن والاس عام 2023. فقد استخدم كلا الجانبين أسرابًا من الطائرات المسيرة الرخيصة نسبيًا للاستطلاع وضرب الأهداف. وفي البحر، وجهت القوارب الآلية الأوكرانية ضربات مدمرة للبحرية الروسية كجزء من حملة أسفرت عن إلحاق أضرار أو تدمير ما يقرب من ثلث أسطول البحر الأسود الروسي، وفقًا للتقديرات الأوكرانية. تحاول روسيا الآن القضاء على هذه السفن الأوكرانية غير المأهولة باستخدام طائرات مسيرة يتم التحكم فيها عن بعد وتوجيهها بواسطة نظام طيران بمنظور الشخص الأول (FPV).
ما يميز الوضع اليوم عن العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين هو النطاق الواسع الذي تُستخدم فيه هذه القدرات -حجمها الهائل الذي لا يمكن إنكاره. يستخدم كل من أوكرانيا وروسيا آلاف الطائرات المسيرة أسبوعيًا لمهام تشمل الاستطلاع والقتال، وبعضها يمكن استرداده، بينما يُصمم البعض الآخر للقيام بمهام أحادية الاتجاه لمسافات تصل إلى مئات الأميال. في ديسمبر 2023، أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أن بلاده ستنتج أكثر من مليون طائرة مسيرة في عام 2024، وقد خصّص فرعًا منفصلًا من الجيش يركز على القوات غير المأهولة، ويعرف بشكل غير رسمي باسم "جيش الطائرات المسيرة" الأوكراني.
هجومٌ هائل
هذا التحول في طبيعة الحروب يحدث بسبب المزايا المحتملة التي يوفرها في ساحات المعارك، وليس فقط بسبب الإمكانيات التقنية المتاحة. فكل جهة، سواء كانت دولًا صغيرة أو فاعلين غير حكوميين، يمكنها أن تولّد قوة ضاربة هائلة من خلال نشر أنظمة أرخص بكميات كبيرة. على سبيل المثال، يمكن لأوكرانيا أن تنفق بضع مئات من الدولارات لشراء طائرة مسيرة تكتيكية لمساعدة وحدة صغيرة في القيام بمهام استطلاعية، أو ما يصل إلى 30,000 دولار لأنظمة قصف طويلة المدى يمكنها استهداف أهداف على بعد أكثر من 500 ميل. تستخدم روسيا عددًا كبيرًا من الطائرات الإيرانية الصنع من طراز "شاهد 136"، التي يصل مداها إلى حوالي 1,500 ميل وتكلف ما بين 10,000 إلى 50,000 دولار. باستخدام هذه الأسلحة، قد تحتاج القوات المسلحة إلى عدة محاولات لضرب هدف معين، ولكن التكلفة الإجمالية لكل ضربة ستكون أقل مقارنة باستخدام أنظمة الأسلحة الأكثر تكلفة. على سبيل المثال، تأمل في الصاروخ الأميركي المتقدم جو-أرض طويل المدى من طراز "JASSM-ER"، الذي يستطيع تنفيذ المهمة بشكل فعال، لكن تقديرات التكلفة تشير إلى أن سعر كل صاروخ يتراوح ما بين مليون إلى مليوني دولار.
في الوقت الحالي يُعدّ الدفاع ضدّ هذه الهجمات أكثر تكلفة بكثير من تنفيذها. ففي أبريل/نيسان الماضي، أطلقت إيران أكثر من 300 سلاح، بما في ذلك طائرات مسيرة هجومية، وصواريخ كروز، وصواريخ باليستية على إسرائيل. وبمساعدة الولايات المتحدة وعدد من الدول الشرق أوسطية، تمكنت إسرائيل من صد معظم الأسلحة. لكن بأي تكلفة؟ تشير تقارير إلى أن الضربة كلفت حوالي 80 مليون دولار لتنفيذها، في حين بلغت تكلفة الدفاع ضدها حوالي مليار دولار. قد تتمكن دولة ثرية وحلفاؤها من تحمل مثل هذه النفقات عدة مرات، لكن ليس 20 أو 30 أو 100 مرة. التصدي لهذا النوع من الهجمات ليس مكلفًا فقط، بل هو أيضًا صعب. يمكن للمهاجم استخدام مجموعة متنوعة من الأنظمة، وربما تستطيع الدولة المدافعة التصدي لنظام معين لكنها تجد صعوبة في التعامل مع الآخرين. ما زال القادة والمحللون في بداية رحلة فهم كيفية التصدي لهذه "الكتلة الدقيقة" على نطاق واسع.
من وجهة نظر المهاجم، لم يعد بإمكان الجيوش الافتراض أن أعدادًا صغيرة من الأسلحة المتطورة وحدها ستحقق النصر. على سبيل المثال، واجهت بعض الأسلحة الأكثر تقدمًا في أوكرانيا، بما في ذلك أنظمة الصواريخ المدفعية عالية الحركة "HIMARS" والقذائف المدفعيّة الموجهة بنظام GPS، تحديات في ساحة المعركة لأن روسيا طوّرت قدرة على التشويش على أنظمة التوجيه والملاحة الخاصة بها. لهذا السبب تحتاج أوكرانيا أيضًا إلى الحجم الذي توفره أنظمة الأسلحة الأرخص لتغمر الدفاعات الروسية.
يمكن أن يساعد استخدام كميات كبيرة من أنظمة الأسلحة الأرخص في جعل الأسلحة المتطورة الأغلى أكثر فعالية. يمكن أن تجهد هجمات "الكتلة الدقيقة" الدفاعات الجوية للعدو، مما يمنح الأنظمة الأكثر تطورًا والأقل عددًا فرصة أكبر لضرب أهدافها. على سبيل المثال، استخدمت روسيا مزيجًا من الأسلحة منخفضة التكلفة مع صواريخ كروز أكثر تكلفة، بما في ذلك الصواريخ الأسرع من الصوت، ضد أوكرانيا.
تُظهر الحرب التي دامت لأكثر من عامين في أوكرانيا أن الصراعات بين الدول قد تظل وحشية وقاسية، لكنها ليست بالضرورة قصيرة. تمتلك الدول فرصة أفضل لتحمل مثل هذه الحروب الطويلة إذا كانت لديها احتياطيات عميقة من أنظمة الأسلحة الأرخص، نظرًا لأن محاولة الحفاظ على مخزون كافٍ من الأنظمة الأغلى ستكون أكثر صعوبة. يسمح التركيز على "الكتلة الدقيقة" للجيوش بالاستعداد لإمكانية أن الحرب لن تنتهي بسرعة، وأن سنوات من القتال قد تكون في المستقبل.
تتعرض وزارة الدفاع الأمريكية في كثير من الأحيان لانتقادات بأنها بطيئة في الابتكار وتبني التقنيات الجديدة، وهو ما اعترفت به نائب وزير الدفاع كاثلين هيكس. ومع ذلك، تُظهر عدة مبادرات وبرامج حديثة اهتمامًا متزايدًا من قبل وزارة الدفاع بمفهوم "الكتلة الدقيقة" وتبني هذه التقنيات المتطورة. على سبيل المثال، تسعى القوات الجوية للحصول على طائرات قتالية غير مأهولة بتكلفة أقل يمكن أن تطير جنبًا إلى جنب مع مقاتلات مثل مقاتلات F-35. وتخطط لشراء هذه الطائرات غير المأهولة بحلول نهاية العقد ونشر الآلاف منها. وقد طار وزير القوات الجوية، فرانك كيندال، في طائرة F-16 مُوجهة بواسطة الذكاء الاصطناعي لتسليط الضوء على احتضان فرع وزارته للتقنيات الجديدة. كما تعمل القوات الجوية مع القطاع الخاص لإنتاج صواريخ كروز يمكن أن تكلف حوالي 150,000 دولار لكل منها، وهو جزء بسيط من التكلفة الحالية التي تتراوح بين 1 مليون و3 ملايين دولار. من جانبها، بدأت البحرية في توظيف متخصصين في الحروب الروبوتية، وأنشأت سربًا جديدًا يركز على السفن السطحية غير المأهولة، وجربت أعدادًا كبيرة من المنصات غير المأهولة في الشرق الأوسط.
أبرز استثمار عسكري أمريكي في مفهوم "الكتلة الدقيقة" هو مبادرة "Replicator" التي تركز على تسريع تبني الابتكارات التي تحتاجها القوات العسكرية الأمريكية الآن، وليس في خمس أو عشر سنوات. المنطقة الأولى التي تركز عليها البرنامج هي توسيع نطاق "أنظمة جميع المجالات القابلة للاستهلاك" -أي المنصات الميسورة التكلفة التي تحدد عصر الحرب الجديد - والتي يمكن أن تعمل في كل شيء من الجو إلى تحت الماء، بهدف نشر آلاف من هذه الأنظمة بحلول أغسطس 2025. وقد أعلنت وزارة الدفاع أن أول استثمارات “Replicator” تشمل طائرة "Switchblade 600" الهجومية ذات الاتجاه الواحد، إلى جانب السفن السطحية غير المأهولة والأنظمة التي يمكنها التصدي للطائرات بدون طيار. من خلال “Replicator” أحرزت وزارة الدفاع تقدمًا في تطوير هذه القدرة في أقل من عام، وهو ما كان يتطلب عموما عدة سنوات لإنجازه، مما أدى إلى إعلان هيكس أن وزارة الدفاع تسير على المسار الصحيح لتحقيق أهداف“Replicator” لعام 2025 للأنظمة المستقلة القابلة للاستهلاك.
بالإضافة إلى الاستثمارات المحددة في مفهوم "الكتلة الدقيقة"، يقوم الجيش الأمريكي بإجراء تعديلات تنظيمية لمساعدة القوات المسلحة على التكيف مع التقنيات الجديدة وتبنيها، مما يُحسن كيفية تنظيم وتدريب وتجهيز ونشر القوات الأمريكية. تختبر وحدات مشاة البحرية أجهزة استشعار مدعومة بالذكاء الاصطناعي تساعد الجنود في فهم البيئة المحيطة ورصد سفن الأعداء. أنشأت القوات البرية فرق عمل تعمل عبر مجالات متعددة لاختبار القدرات الناشئة في الجو، والبر، والبحر، والفضاء، والفضاء السيبراني، ورؤية كيفية استخدامها بشكل فعال في ساحة المعركة. وقد رُفع مستوى وحدة الابتكار الدفاعي -وهي منظمة داخل وزارة الدفاع مكلفة بتسريع تطوير وتطبيق التكنولوجيا المتاحة تجارياً- لتُعَدّ مسئولة مباشرة أمام وزير الدفاع، والزيادة الكبيرة في الميزانية التي حصلت عليها من الكونغرس في عام 2024، تثبت أن كلا من "البنتاغون" و"الكونغرس" يأخذان هذه التغيرات في طبيعة الحرب على محمل الجد.
أخيرًا، يموّل "احتياطي التجارب الدفاعية السريعة" التجارب على القدرات التي يعتبرها الجيش الأمريكي الأهم لمواجهة التحديات في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وغيرها من المسارح. وبالفعل، فقد انتقلت ثلاثة مشاريع جاءت من المجموعة الأولية لأنشطة الاحتياطي إلى الجيش الأمريكي، بما في ذلك تسريع تحسينات قدرة مشاة البحرية على تنفيذ عمليات القصف في منطقة المحيطين الهندي والهادئ بمقدار خمس سنوات. على الرغم من وجود المزيد من العمل الواجب القيام به، إلا أن هذه التطوّرات تُظهر أن الولايات المتحدة قد وضعت الأساس ليس فقط للاستفادة من "الكتلة الدقيقة" ولكن أيضًا لما سيأتي بعد ذلك.
ضباب المستقبل
علامات التغيير الكبير في كيفية خوض الحروب لا لبس فيها. الطائرات المسيرة الصغيرة والرخيصة التي تم نشرها بكثافة في أوكرانيا خلال العامين الماضيين تعطي لمحة فقط عن شكل هذه الحروب في المستقبل. سيتعين على الجيوش إيجاد طرق لهزيمة استراتيجية الكتلة الدقيقة، وستؤدي هذه الجهود إلى مزيد من التغيير. على سبيل المثال، الأسلحة ذات الطاقة الموجهة -الأسلحة التي تستخدم الطاقة المركزة بشدة، مثل الليزر أو حزم الجسيمات، بدلاً من المقذوفات الصلبة- يمكن أن تقلل من تكلفة الدفاع ضد أسراب الطائرات المسيرة. قامت القوات الأمريكية والبريطانية مؤخرًا باختبار ونشر أنظمة ذات طاقة موجهة مصممة للدفاع ضد الطائرات المسيرة الجوية، بما في ذلك في الشرق الأوسط. لا بد أن نقول إن الطاقة الموجهة قد تم تخيلها كتكنولوجيا للمستقبل لأكثر من أربعة عقود. لكن مثل هذه الأسلحة قد تجد مكانًا لها بالفعل في الحروب القادمة.
ما هو مؤكد هو أن الانتظار يعني التخلف. الصين، وروسيا، وإيران ووكلاؤها، ومجموعة من الجهات الفاعلة الأخرى لا تتوانى في السعي نحو الكتلة الدقيقة وفوائدها الملموسة في ساحة المعركة. يجب أن يشعر صانعو السياسات في واشنطن بالقلق بشكل خاص إزاء التقدم السريع للصين في كل شيء من السفن إلى الصواريخ فرط الصوتية إلى صواريخ مضادة للسفن، جنبًا إلى جنب مع استثماراتها الضخمة في الذكاء الاصطناعي، واهتمامها بمفاهيم الكتلة الدقيقة، وقدرتها على إنتاج أنظمة أسرع بكثير مما تستطيع الولايات المتحدة اليوم.
يجب أن يتقدم الجيش الأمريكي بسرعة أكبر؛ يجب أن تتحول الابتكارات والنماذج الأولية اليوم إلى قوة عسكريّة غدًا إذا أرادت الولايات المتحدة الحفاظ على قيادتها العالمية. ينبغي أن تحفز الأدلة المتزايدة على فعالية أنظمة الكتلة الدقيقة ليس فقط المحادثات حول التغييرات المستقبلية ولكن أيضًا تغييرات حقيقية في الاستثمارات اليوم -النفقات التي ستؤثر على مجموعة واسعة من القرارات، بدءً من السفن التي يبنيها البحرية إلى الصواريخ التي تشتريها الجيش إلى البنية التحتية للذكاء الاصطناعي التي ستحتاج كل خدمة عسكرية إلى استخدامها. نظرًا لأن التقنيات الأساسية التي تقود هذه التطورات في الكتلة الدقيقة تأتي من القطاع التجاري، سيتعين على الاستراتيجيين التفكير في عواقب الانتشار الواسع النطاق لمثل هذه القدرات. ستشكل إمكانية الوصول النسبي لأنظمة الكتلة الدقيقة الطريقة التي تستعد بها كل دولة، وليس الولايات المتحدة والصين فقط، للمستقبل.