• الجيش الإسرائيليّ طوّر خلال فترة ترؤس أفيف كوخافي لهيئة الأركان مفهوما جديدا للنصر أسماه "النصر العملياتي". وإذا نظرنا إلى بيانات الجيش الكثيرة خلال حرب غزّة، وتحديدا البيانات التي تصدر بعد إنجاز عمليّات عسكريّة كبيرة في منطقة جغرافيّة مُحدّدة، فإننا نرى أن هذه البيانات تتكرّر فيها عبارة "Dismantle the Operational Framework" (أي تفكيك أو تقويض الإطار العمليّاتي لـ "حماس" في منطقة ما). بالنسبة للجيش، فإن حاصل مجموع هذه "الإطارات العملياتيّة"، وتحديدا على مستوى ألوية "حماس" المناطقيّة، يساوي قدرة الجهاز العسكريّ لـ "حماس" على العمل كجيش منظّم. ومن هذا المنطلق، فإن "النصر العملياتي" يعني تقويض هذه القابلية، أي قابلية الجسم العسكريّ للعمل كجسم منظم، ويتم تحقيق ذلك عبر اغتيال قادة الألوية والكتائب (وبالتالي حرمان الكتائب من الحصول على الدعم اللوجستي والعمليّاتي على مستوى اللواء)، وتدمير مراكز التحكم والسيطرة ومخازن الذخيرة وورش التصنيع والأنفاق. ومن اللافت أن الجيش حال انتهائه من العمل في منطقة ما يُعلن أيضا عن "سيطرته العملياتية" عليها، وقد يكون هذا المفهوم، بالمعاني العمليّة، مرادفا لمفهوم حرية الحركة، أي قدرة الجيش على العودة إلى المناطق التي عمل فيها سابقا بدون عوائق. الجيش يرى أن مفهوم "النصر المطلق" لا وجود له، وأن مهمته انتهت بتحقيق "النصر العمليّاتي" على الأرض، وأن ما تبقى من مهمّات يمكن القيام به لاحقا عبر برنامج طويل يمزج بين المطاردة الساخنة والاغتيالات والإغارات الموضعية والتدخلات الإنسانية.
  • الجيش الإسرائيليّ خضع بعد حرب العراق عام 1991 إلى عمليّة "أمركة" واضحة بتأثير النموذج الجديد الذي قدمته العسكريّة الأمريكيّة خلالها، حيث بات هذا الجيش مع الوقت أقرب إلى فرع صغير من الجيش الأمريكيّ على مستوى العقائد والتصوّرات وتوظيف الذخيرة واستخدام التكنولوجيا الفائقة. وبلا شكّ فإنّ عمليّة "الأمركة" هذه كان لها أيضا جذور في تحوّلات الاقتصاد السياسيّ الإسرائيلي، حيث أصبح الاقتصاد الإسرائيلي ابتداءً من النصف الثاني من الثمانينيّات أكثر انفتاحا على حركة العولمة وقيمها وعلى تيارات رؤوس الأموال العالمية التي بدأت تتركز بشكلٍ شبه حصري في قطاع التقنيّة العالية، وكان من التأثيرات الثقافية لهذا الانفتاح إبراز قيم الفرديّة والاحتراف والوقوع في غرام التكنولوجيا، وهي قيم تأثر بها الجيش بلا ريب. أحد ملامح الأمركة التي تلفتني بشكل دائم هو تحوّل قادة الجيش الإسرائيليّ إلى ما يُشبه الموظفين المحترفين مع افتقارهم إلى تصوّرات ذات طابع استراتيجيّ، ويمكن رؤية تجليات هذا التحول حتى بالمعنى الظاهري، وذلك من خلال حجم الاختلاف بين صورة القائد العسكريّ الإسرائيليّ قديما ببزته المُغبرة وقيافته غير المُعتنى بها كثيرا ومُثله الشخصية على مستوى المبادرة الجامحة والقرب من الأرض والجنود، وصورة القائد العسكريّ الحالي المتأنق في هندامه والأكثر اعتمادا على التقارير البيروقراطيّة ومؤشرات الأداء، حتى أن اجتماعات قادة الجيش في الغرف المكيّفة المزودة بالشاشات المسطحة تبدو أقرب إلى اجتماعات مجالس الإدارة في الشركات الغربية منها إلى اجتماعات قيادات الأركان.
  • بالنظر للعلاقة العضويّة التي تطوّرت بين الجيشين الإسرائيليّ والأمريكيّ خلال العقود الأخيرة، وبالنظر لأنّ قادة الجيش هم المعنيّون أولا وأخيرا ببناء القوّة العسكريّة الإسرائيليّة وتنظيمها، وبالنظر لأنهم الأقدر على فهم احتياجاتها ومشكلاتها البنيويّة، فإنهم يولون أهميّة أكثر من غيرهم في إسرائيل لهذه العلاقة، نظرا لما تمثله العسكريّة الأمريكيّة من مصدر للسلاح المتطوّر والتقنيّات الجديدة وفرص التدريب والترقي. وهذا الأمر له بالضرورة عقابيل مهمة قد يكون أبرزها نزع التسييس عن الجيش مع الوقت، وتبنيه لعقيدة ترى أنّ العلاقة مع الولايات المتحدة تسمو على كلّ الاعتبارات الأخرى بما فيها الاعتبارات العسكريّة المتعلقة بحرب غزّة، وأن الأسلم دائما هو سماع كلمة الأمريكيين والعمل بها والانخراط في استراتيجيتهم بوصفها الاستراتيجيّة الرابحة دوما والمفيدة لإسرائيل على المدى البعيد. ومن جهة أخرى، فإنّ هذه العلاقة ليست ذات اتجاه واحد. فالنخبة الأمريكيّة ترى في قيادة الجيش الإسرائيلي آخر ما تبقى من قلاع الصهيونيّة العلمانيّة العاقلة التي ترغب في استعادتها وتقوية نفوذها على حساب التمدّد الذي شهدته التيارات الدينيّة في إسرائيل، حيث ترى النخبة الديمقراطيّة بالذات أن هذه التيارات تُهدد إسرائيل من الداخل.
  • خلال الأسبوع الماضي نظّم الجيش ما يشبه حملة العلاقات العامّة ليولّد نوعا من الضغط على نتنياهو من أجل المضي قُدما في صفقة تخرج الرهائن من غزّة، لكن هذه الحملة لم تنجح في زحزحة الأخير عن مواقفه على ما يبدو وتحديدا في المسألة المتعلقة بمحور "فيلادلفي"، إذ يبدو نتنياهو اليوم، أكثر من أي يوم مضى، كما لو كان محاربا وحيدا لا يقف في وجه المؤسسة العسكريّة فقط، بل وفي وجه إسرائيل كلها، مدافعا عن تصوّراته الأمنيّة وعن منطقه للتعامل مع التهديدات المختلفة حتى الرمق الأخير. هكذا تتجلى أمامنا صورة فيها الكثير من التباينات: بينما يتحدث الجيش عن "النصر العملياتي" يبحث نتنياهو عن "النصر المطلق"، وبينما يتناقص تسييس الجيش يُطلق نتنياهو العنان لأقوى غرائزه السياسيّة ويقول أن الأمر كلّه بيده وأن الجيش لا يفهم العالم السياسيّ المستجد من حوله، وبينما يحرص الجيش على عدم إغضاب أمريكا ومجاراتها والسير معها حتى النهاية، فإن نتنياهو، على العكس من ذلك، يبنى كلّ سلوكه على فكرة أن المدخل لتحقيق الأهداف هو إغضاب الأمريكيين والتلاعب بهم ومعارضتهم حتى النهاية حتى لو تطلّب الأمر منه التحوّل إلى نسخة إسرائيلية من القادة السلطويين أصحاب السمعة السيئة في الغرب، وهو أمرٌ لخصه في مقابلته الأخيرة مع مجلّة "التايم" حين قال أنه يُفضّل الخبر السيء على النعي الجيّد.
(Visited 104 times, 1 visits today)