أعتقد أنّ اكتشافات إسرائيل الكبيرة من الغاز الطبيعيّ في البحر المتوسّط في عامي 2009 و2010 لم تلق بعد حقها الوافي من الدراسة، وتحديدا استقصاء تأثيراتها على تغيير الواقع الجيوسياسيّ وعلاقات القوّة وتداخل المصالح في منطقة شرق المتوسّط خلال العقد الأخير. وينبغي التشديد هُنا على أنّ هذه التأثيرات لم تستقر بعد، فهي لا تزال في طور التشكّل والتطوّر، خاصّة مع تعمّق واتّساع مكانة إسرائيل كمورّد للطاقة لبلدين مهمّين في المنطقة وهما مصر والأردن. وإذا سلّمنا بحقيقة أن اكتشافات الغاز الإسرائيليّة مثّلت إضافة للأصول الاستراتيجيّة للقوّة والنفوذ الإسرائيليين في المنطقة، فيُمكن القول أنّ هذه الاكتشافات خلقت في نفس الوقت تعقيدات جديدة لتل أبيب، وتحديدا من المنظور الأمني. فنظام الطاقة في إسرائيل، كما هو الحال في أي بلدٍ آخر، هو بطبيعته نظام هشّ إزاء المخاطر الأمنيّة. يكفي أن تُستهدف منصّات الغاز في البحر المتوسّط ببضعة مسيرّات مثلا حتى تدخل إسرائيل في حالة طواريء تؤثّر على كل مناحي الحياة العامّة وعلى الأنشطة الاقتصاديّة برمّتها. لكن هل حالة الطواريء هذه إن حدثت ستكون مشكلة إسرائيليّة فقط؟ هنا بعض الأرقام والملاحظات ومحاولة للتأمل والإجابة:

  • تُصدّر إسرائيل الغاز إلى مصر والأردن بشكل رئيسيّ من حقل "ليفياثان" (طاقته الإنتاجيّة 1.2 مليار قدم مكعب يوميّا)، بينما تستخدم حقل "تامار" لتلبية الاستهلاك المحلّي، مع تخصيص كميات ضئيلة منه للتصدير للأردن. بدأ تصدير الغاز من إسرائيل للأردن عام 2017، بينما بدأ تصديره  إلى مصر في العام 2020. وترتبط الشركات المُشغّلة لحقلي "ليفياثان" و"تامار" بعقود طويلة الأجل يصل بعضها إلى 20 عام مع الشركات المستوردة في كلا البلدين العربيين، ويجري نقل الغاز المُصدّر من خلال شبكة أنابيب عابرة للحدود، أما تسعيره فيجري على أساس ربطه بأسعار خام برنت، ونظام التسعير هذا هو النظام السائد حول العالم في أغلب عقود الغاز المنقول عبر الأنابيب.
  • يمكن الملاحظة أنّ كميّات الغاز المُصدّرة من إسرائيل للأردن ومصر قد شهدت نموّا كبيرا منذ أن دخلت اتفاقات التصدير مع هذين البلدين حيّز التنفيذ. في حالة الأردن، ارتفعت الكميات المستوردة من الغاز الإسرائيليّ من 14 مليون قدم مكعب يوميّا عام 2018 إلى 281 مليون قدم مكعّب يوميّا عام 2023. أما في حالة مصر، فقد ارتفعت الكميّات المستوردة من الغاز الإسرائيليّ من 208 مليون قدم مكعب يوميّا عام 2020 إلى 822 مليون قدم مكعّب يوميّا عام 2023. ومن المتوقّع أن تزداد إمدادات الغاز لمصر في السنوات القليلة القادمة، خاصّة مع وجود مشروعات إسرائيليّة لتوسيع شبكة النقل الإقليمي لمصر ومعالجة اختناقاتها وإضافة أنبوب آخر للنقل بخلاف أنبوب عسقلان-العريش، يمرّ من منطقة عوجة الحفير دخولا إلى الشبكة المصريّة.
  • إنّ قراءة أرقام صادرات إسرائيل من الغاز الطبيعيّ للأردن ومصر خلال السنوات الماضية لا تقول كلّ القصّة. فحتى نفهم تأثير الغاز الإسرائيليّ في نظام الطاقة الإقليميّ، فعلينا أن نرصد حصّته في مزيج الطاقة في هذين البلدين (أي حصته في مزيج توليد الكهرباء). وهنا نرى أرقام شديدة الدلالة، ففي حالة الأردن تبلغ حصّة الغاز الإسرائيلي من مزيج الطاقة حوالى 72%، والمفارقة العجيبة هنا أن الأردن أكثر اعتماديّة على الغاز الإسرائيلي من إسرائيل نفسها، حيث أنّ توليد الكهرباء في إسرائيل يعتمد بنسبة 70% على الغاز بينما تأتي طاقة التوليد المتبقية من ثلاثة مصادر هي الفحم والوقود والطاقة المتجددة. أما في حالة مصر، فإنّ الغاز الإسرائيلي يمثّل حصّة مقدارها حوالى 26% من مزيج توليد الكهرباء، ومن المتوقع أن تزيد هذه الحصة مستقبلا إذا استمرّت معدلات الإنتاج المصري من الغاز الطبيعي بالتراجع، وهو ما سيجعل هيكل الطاقة هناك معتمدا بشكلٍ أكبر على واردات الغاز والوقود.
  • أدركت إسرائيل منذ اكتشاف الغاز المعضلة الأمنيّة التي يخلقها تحوّلها إلى بلدٍ منتج للغاز الطبيعي. ويمكن أن نلحظ أثر الاستجابة الأمنية الإسرائيليّة على هذا الواقع الجديد في التطوّر الذي شهدته البحريّة الإسرائيلية في العقد الأخير وفي إدماج منظومات الدفاع الجويّ مثل "القبّة الحديدية" في الطرادات الحربيّة والحصول على غوّاصات متطوّرة. فتاريخيّا كانت الشواغل الإسرائيلية متركزة بشكلٍ كبير على البحر الأحمر وعلى ضمان أمن وحرية الملاحة في مضائقه، أما البحر الأبيض، فقد استندت إسرائيل في تأمينه على الحضور الأمريكيّ العسكريّ. ولكن مع اكتشاف الغاز أمام سواحل الأبيض المتوسط وبدء الإنتاج من أعماق مياهه، فقد أصبح لزاما على إسرائيل أن تُعيد صياغة علاقتها مع البحر مجددا، ليصبح البحر الأبيض مساويا بأهميّته للبحر الأحمر. هذه الضرورات الأمنية والاقتصاديّة أفضت بالضرورة إلى تغيير في العقائد والسياسات، كان ملمحها الأبرز كما أسلفنا توسيع وتطوير سلاح البحريّة الذي كان تاريخيا سلاحا صغيرا في إسرائيل مقارنة بدول الإقليم الأخرى كمصر وتركيا.
  • على المستوى المدنيّ، إن صحّ التعبير، فقد كانت الاستجابة الإسرائيليّة لمسألة أمن الطاقة التي خلقتها اكتشافات الغاز هي الاحتفاظ دائما بخطة "ب"، أي التأكيد على أهميّة تنويع هيكل الطاقة وإبقاء مسار للرجوع مجددا لنظام الطاقة الذي كان قائما قبل الاكتشافات. وفي ظلّ حالة التوتّر الإقليميّ وارتفاع احتماليات اندلاع حرب مع لبنان، فإن المؤسسات المختلفة في إسرائيل كانت مشغولة بإعداد خطّة للتعامل مع سيناريو من هذا النوع، وقد بدأت بعض ملامح هذه الخطة بالظهور حيث تعتمدعلى: 1- إيقاف الإنتاج من الحقول الثلاثة المنتجة حاليّا: "ليفياثان" و"تامار" و"كاريش" 2- مراكمة مخزونات كبيرة من الوقود والفحم لاستخدامها في حالات الطوارئ وتوزيع المئات من وحدات التوليد في المرافق المختلفة على طول وعرض إسرائيل 3- تحويل كل المحطّات الكهربائيّة التي تعمل بالغاز الطبيعيّ للعمل بالديزل وتشغيل محطتي الفحم الكبيرتين في عسقلان والخضيرة بطاقتهما القصوى. وبمعنى آخر، فقد وضع الإسرائيليون خطتهم على أساس أنهم لن يعتمدوا على الغاز مُطلقا، وهم يطمحون أن تقيهم هذه الخطة من تعطّل نظام الطاقة بالكامل في الشهر الأوّل من الحرب على الأقل.
  • أما وقد اتضحت أمامنا كل هذه المعطيات، لنتخيل لدقيقة فقط السيناريو الذي تتوقف فيه منصّات الغاز في إسرائيل عن العمل لفترة طويلة بسبب الحرب، وهو سيناريو قلنا أنّ الإسرائيليين يتجهّزون له فعلا، فهل هذا يعني أن الظلام سيحل في تل أبيب فقط أم أنه سيطال عمّان والقاهرة أيضا؟ أعتقد أن الإجابة لا تحتاج إلى الكثير من التفكير. وربما هذا ما يدفعنا للاستخلاص والقول أنّ أبرز ملامح تحوّل إسرائيل لمصدّر للغاز الطبيعي في المنطقة هو أنه جعل مشكلات أمن الطاقة في إسرائيل مشكلات عربيّة أيضا.
(Visited 280 times, 1 visits today)