واجهت السياسة البريطانيّة بعد إسدال الستار على مسرح العمليّات العسكريّة في الشرق الأوسط بنهاية الحرب العالميّة الأولى معضلة مُركّبة. من جهة، كانت سيطرة بريطانيا على مساحاتٍ شاسعة من أراضي الإمبراطوريّة العثمانيّة الآفلة في آسيا العربيّة تتطلّب الآلاف من الجنود والمعدّات لإدارة المناطق المحتلّة حديثا، خاصّة أن السلطات البريطانيّة واجهت بمجرّد انطفاء أوار الحرب موجة من التمردات الشعبيّة كان أبرزها ثورة سعد باشا زغلول في مصر (1919) وثورة العشرين في العراق (1920). ومن جهة ثانية، كان الإبقاء على عددٍ كبير من الجنود على الأرض يعني المزيد من الاستنزاف للموارد الاقتصاديّة في ظلّ مزاجٍ شعبيّ جارفٍ في إنجلترا كان يدفع نحو التحلّل من أعباء اقتصاد الحرب وحِمله الثقيل الذي كسر ظهر البلاد والعباد.

كان ونستون تشرشل وزير الحربيّة والطيران في ذلك الوقت، وقد وقع على عاتقه بالتالي إيجاد حلّ لتلك المشكلة. وقد اختار السيّد تشرشل أن يُعالج هذه المسألة الحسّاسة بمنطقٍ مُحاسبيّ، ومن هُنا فإنّ سياسته في الشرق الأوسط كانت تنطلق أولا وقبل كلّ شيء من الإجابة على سؤال مُحدّد: كيف يُمكن الحفاظ على المصالح البريطانيّة في المنطقة بأقلّ تكلفة ممكنة؟ في إجابتها على هذا السؤال تفتقّت العقليّة الإنجليزيّة المتقشفة عن حلّ تقنيّ (وكان هذا المكوّن الأول من الحل الأشمل الذي انطوى على مكوّن آخر سياسي)، حيث صاغ تشرشل بصحبة السير هيو ترنشارد، قائد سلاح الجوّ الملكيّ، في وقتٍ مبكّر بعد الحرب، مباديء عقيدة "التحكّم من الجو" لحفظ الأمن الداخليّ في نطاقات السيطرة البريطانيّة التي قد تندلع فيها تمرّدات ضدّ السلطات الجديدة، وذلك عبر استخدام الطيران لمهام المراقبة والاستطلاع وقصف المتمرّدين مباشرة من الجو أو مؤازرة الطيران للتشكيلات البريّة الصغيرة سريعة الحركة العاملة على الأرض. وقد جرى أوّل تطبيقٍ عمليّ لهذه العقيدة في الصومال البريطانيّ، المعروف اليوم بـ "أرض الصومال"، في مطلع العام 1920، وذلك لإخماد انتفاضات الدراويش التي أطلقها الزعيم الديني محمّد بن عبد الله حسن نور ضدّ الإنجليز منذ نهاية القرن التاسع عشر. وسرعان ما جرى تعميم هذه التجربة في مناطق أخرى خلال عقدي العشرينيّات والثلاثينيّات، وتحديدا في العراق وإمارة شرق الأردن وفلسطين.

كانت سياسة "التحكّم من الجو"، بطبيعة الحال، محطّ جدلٍ ونقاشٍ وتنقيح في أوساط المؤسسات البريطانيّة المعنيّة بشئون المستعمرات والدفاع الإمبرياليّ، ويمكن لنا أن نجد صدى لتلك النقاشات القديمة حتى يومنا هذا في الدوائر العسكريّة والأمنيّة في أرجاء مختلفة من العالم الغربيّ. فالتحكّم من الجو بدا في ذلك الوقت حلا اقتصاديّا وأمنيّا مثاليّا على الورق، لكنّه واجه في التطبيق العمليّ معضلاتٍ لوجستيّة وفنيّة مختلفة، خاصّة أننا نتحدث هنا عن طائرات بدائيّة خفيفة كثيرة الأعطال وعن عصر لم تكن فيه وسائل التوجيه والاتصالات قد ظهرت إلى النور بعد. وفي واقع الأمر، فإنّ التقارير التي كتبها جون باغوت غلوب (غلوب باشا)، الذي عمل كضابط استخبارات في سلاح الجو الملكيّ في العراق خلال عقد العشرينيّات، تقدّم تفصيلاتٍ مميّزة عن هذه المعضلات وعن التحديات التي اكتنفت تطبيق عقيدة "التحكّم من الجو" لردّ هجمات "ميليشيات الإخوان" التي كانت تهاجم قبائل جنوب العراق انطلاقا من نجد في ذلك الزمن.

قد تكون إسرائيل أكثر دولة في العالم تأثرا بالتجربة العسكريّة البريطانيّة في مختلف أوجهها، وأكثرها توظيفا للتقنيات والتكتيكات والعقائد التي طبقها الجيش البريطانيّ في عمليّات مكافحة التمرّد في المستعمرات المختلفة. وقد أبدى الإسرائيليون اهتماما مبكّرا بتطوير الطيران المُسيّر كأداة عسكريّة لأغراض المراقبة والضبط والقمع، أي "التحكّم من الجو" كما عرّفه الإنجليز تماما. ويرى كثيرون أن المهندس اليهوديّ العراقي في معهد "التخنيون"، أبراهام كريم، هو الأب المؤسس لتكنولوجيا الطيران المُسيرّ كما يعرفها عالمنا اليوم.

ولئن كان الإسرائيليون قد ذهبوا بعيدا  في توظيف الطيران المُسيّر ضمن ماكنتهم العسكريّة، حتى بات علامة فارقة يعايشها الفلسطينيون عن كثب في يوميّاتهم، ويختزنون في ذاكرتهم قصصا شديدة البشاعة عنها، ويسمعون في آذانهم طنينها المستمر منذ عقود، فإنّ حرب غزّة شهدت دخول طراز جديد من هذا الطيران على نطاق أكثر كثافة وبمهمّات تجاوزت كثيرا ما عرفناه عن الطائرات المسيّرة التقليديّة، والحديث هُنا عن "الكوادكبتر"، تلك الطائرة الصغيرة اللعينة، التي بات يعرفها كلّ غزّي عاش ولا يزال يعيش الحرب الحالية.

لم يكتف الإسرائيليون بتوظيف "الكوادكابتر" كمنصّات طائرة مُرافقة للقوّات الغازية لأغراض المراقبة وقتل كل من يتحرك في طريقها، بل ذهبوا إلى ما كان من الصعب تخيّله حتى وقتٍ قريب. فبسبب حجمها الصغير وإمكانيّة اقترابها كثيرا من الأرض وقدرتها على المناورة داخل الكتل العمرانيّة وإطلاق أسراب كبيرة منها دفعة واحدة، باتت "الكوادكبتر" تلعب دور "سُلطة من السماء"، خاصة وأنّها تستطيع حمل ميكروفونات موجهة من بعد، ما يجعل منها نصف آلة ونصف إنسان في آن معا، ويمكن أن نلمس هذا الأمر في استخدام الإسرائيليين لها في رسم مسارات النزوح وإخلاء مناطق سكنيّة بعينها بل وتوظيفها في أغراض الحرب النفسيّة من خلال بثها لأصوات مرعبة في الليل.

يبقى فقط أن نتأمّل في احتمالات التوظيف السياسيّ لهذه الأداة الصغيرة قريبا، أي عندما تدخل الحرب مرحلتها الثالثة، ويكون الإسرائيليون بحاجة إلى تطبيق ما كان تشرشل يرمي إليه قديما، أي قواتٍ قليلة على الأرض وقدرة على السيطرة والتحكّم بالمكان والبشر بأدوات رخيصة في نفس الوقت. هل ستصبح "الكوادكبتر" شرطي إسرائيل الجديدة لغزّة؟ أم أن افتراضا كهذا هو ضربٌ من الفانتازيا؟ إذا كان كارل ماركس قد قال قديما أن التاريخ يعيد نفسه مرّة على شكل مأساة ومرّة على شكل مهزلة، فإن الخطّ الزمنيّ الممتد من أفكار تشرشل عام 1919 إلى الوقائع الميدانيّة لحرب غزّة عام 2024 يقول أنّ التاريخ يمكن في الكثير من المرّات أن يعيد نفسه على شكل كابوس شديد الواقعيّة.

(Visited 290 times, 1 visits today)