في أعقاب هزيمة العام 1967 واحتلال إسرائيل لما تبقّى من الأراضي الفلسطينيّة، صاغ موشيه دايان ما عُرف آنذاك بسياسة "الجسور المفتوحة"، والتي يُمكن القول أنّها مثلت الناظم الرئيسيّ لإدارة إسرائيل للمناطق المحتلّة منذ ذلك العام وحتى اندلاع الانتفاضة الشعبيّة عام 1987. كان دايان من جيل السابرا الذي خَبِر الحياة الشاقة في أوائل كيبوتسات الحركة الصهيونيّة بالقرب من بحيرة طبريا، وقد استطاع منذ سنّ مُبكّرة إتقان اللغة العربيّة والاحتكاك مع أهل البلاد وبناء صلاتٍ معهم أكثر من أيّ قياديّ صهيونيّ آخر.
وعلاوة على ذلك، كان دايان شاهدا على جانبٍ مُهمّ من حقبة الانتداب البريطانيّ، ما أتاح له تشرّب الأساليب الانتدابيّة في إدارة المناطق المحتلّة في أوقات الهدوء والتمرّد. فقد عمل الرجل في شرطة فلسطين التي أسستها سلطات الانتداب أوائل العشرينيّات، كما تتلمذ على يد الضابط الإنجليزي الصهيونيّ أوردي وينجيت في تكتيكات مكافحة التمرّد في خضم ثورة 1936، ووينجيت هذا كان الشخصيّة الأكثر إلهاما لجيل العسكريين الإسرائيليين الأوائل. كانت تجربة دايان المُبكّرة مع العرب ومع الانتداب البريطانيّ الرافد الأوّل في صياغة أفكاره اللاحقة حول "الجسور المفتوحة".
أمّا الرافد الثاني والأكثر حسما وأهميّة فقد جاء من مكانٍ غير متوقّع بتاتا. ففي عام 1966 عمل دايان مع صحيفة "معاريف" كمراسلٍ حربيّ لفترة قصيرة في فيتنام في خضم الحرب مع الولايات المتحدة. وقد منحته تجربته تلك مساحة للتأمّل عن قرب في سياسات الاحتلال الأمريكيّ تجاه الفيتناميين. كان أهم استخلاص خرج به من تلك التجربة هو أنّ القصور الرئيسيّ في السياسة الأمريكيّة المحليّة يتمثّل في سعيها لـ "أمركة" الفيتناميين، أي في محاولة فرض نماذج للعيش والتعليم والزراعة عليهم، فيما تقتضي الضرورة أن يُتركوا وشأنهم بدون محاولة تغيير نظامهم الاجتماعيّ. بحسب شلومو غازيت، المعاون الأبرز لدايان، كانت تجربة فيتنام الأكثر تأثيرا على أفكار الرجل حول إدارة المناطق المحتلّة.
قامت السياسة التي صاغها دايان على ثلاثة مباديء رئيسيّة: 1- عدم التواجد، أي تقليل حضور الجيش الإسرائيليّ في المناطق المحتلة إلى أبعد حدّ، بمعنى تحويل الاحتلال العسكريّ إلى نظامٍ غير مرئيّ ما أمكن ذلك 2- عدم التدخل، أي ترك مسائل الإدارة المحليّة في المناطق المحتلّة للمجالس القروية والبلديّات والمخاتير والعشائر الفلسطينية لتعزيز الانطباع القائل بأن الفلسطينيين يديرون شئونهم بأنفسهم 3- الجسور المفتوحة، أي السماح بحرية الحركة والتجارة بين المناطق المحتلّة والدول العربيّة المجاورة وعلى رأسها الأردن، وذلك للسماح للاقتصاد السياسيّ الفلسطيني القائم قبل حرب 1967 بإعادة إنتاج نفسه بدون تغييرات جذريّة. وقد شوهد دايان بعد الحرب بأيامٍ قليلة وهو يُشرف بنفسه على إعادة افتتاح الجسور بين ضفتي نهر الأردن، وهو يتحدّث بالعربية إلى المسافرين وإلى سائقي شاحنات العنب الخليلي مُطمئنا على أحوالهم وعلى سلاسة الحركة عبر الجسور.
في قطاع غزّة، اصطدمت هذه السياسة بوجود خلايا متعدّدة للمقاومة الشعبيّة وتحديدا في مخيّمات اللاجئين. هُنا كان على خيار الاحتواء أن يتنحّى لصالح الخيار الأمنيّ، وقد جسّد هذا الخيار أرييل شارون، الذي كان يشغل قيادة المنطقة الجنوبيّة آنذاك، فشنّ حملة عنيفة لاجتثاث الحركة الفدائيّة من القطاع، كان من أبرز نتائجها تهجير الآلاف من الأهالي وإعادة هيكلة المشهد الحضريّ في مخيّمات القطاع وعلى رأسها مخيّم الشاطيء. وفي مطلع السبعينيّات، نجحت سياسة شارون بالفعل في إخماد الحركة الفدائيّة وضمان الأمن والهدوء في القطاع. عند هذا المفصل أطلّ دايان برأسه مجددا واستطاع صياغة ما يشبه التحالف مع مخاتير ووجهاء القطاع وأخذَ تعهدا شبه جماعيّ منهم بمنع شبّان العائلات المختلفة من الانخراط في أعمال مناهضة لإسرائيل، كما نسج علاقاتٍ شخصيّة مع الكثيرين منهم وداوم على زيارتهم في دواوينهم (وكان لدايان هُنا مآرب غير السياسة أيضا وهو محاولة الحصول على الآثار الذي كان مُولعا بها حدّ الجنون). وبالإضافة لذلك، فقد كانت هنالك أيضا رشوة كبيرة لأهالي القطاع عنوانها فتح الباب أمام العمل في إسرائيل والاستفادة من فرص العمل المُجزية هناك.
الخطط التي تداولها ساسة إسرائيل خلال الأشهر الماضية حول اليوم التالي للحرب لم تشذ في أفكارها كثيرا عن أفكار دايان قبل ما يزيد على خمسين عاما، أي التركيز على خلق إدارات محليّة طيّعة ومتعاونة، وإن بشكلٍ غير مباشر، مع سلطة الحكم العسكري. لكن الفوارق بين الماضي والحاضر كبيرة ونوعيّة: 1- افتقار الطبقة السياسية الإسرائيلية للنخب ذات الرؤية الاستراتيجيّة والتي كانت تدرك أن مهمتها في إطالة أمد الهيمنة على الفلسطينيين تتطلب منها خلق نموذج من "الاحتلال المستنير" (والتعبير هنا لقيادة المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال) 2- التطور الكميّ والنوعيّ الذي حدث في قدرات المقاومة في قطاع غزّة بين الزمنين، حيث أن خلق إدارات محليّة يتطلّب بالضرورة إخمادا شاملا للمقاومة وهذا لم يتحقّق حتى الآن، فطالما ظلّت بندقيّة واحدة تعمل ستبقى فكرة الإدارات المحليّة هشّة وتحت التهديد 3- الحاجة الإسرائيليّة لتقديم رشوة اقتصاديّة كبيرة تربط قطاع واسع من السكان مصلحيّا بسلطة الاحتلال وهو أمر لم يتوفّر بعد ومن المشكوك توفره في المستقبل المنظور. أمام هذا المشهد فالسيناريو المتبقي هو ترك القطاع لحالة فوضى مزمنة تضعه في حالة استنزاف طويل بلا حلول من أي نوع كان، بحيث تكون هذه الحالة حربا بنهاية مفتوحة، وأعتقد أن هذا ما يريده الإسرائيلي بمعزل عن كل أحاديثه عن اليوم التالي للحرب.