وقع وزير الدفاع الإسرائيليّ يوم أمس صفقة لبيع منظومة "السهم" – حيتس للدفاع الجويّ طويل المدى لألمانيا. وبحسب التقارير، فقد بلغت قيمة الصفقة حوالى 4 مليار يورو، وهو ما يجعلها أكبر صفقة عسكريّة تُبرمها إسرائيل في تاريخها. توقيع هذا الاتفاق بين تل أبيب وبرلين سيسمح للأخيرة بتخصيص 560 مليون يورو كمرحلة أولى لتمكين الصناعات العسكريّة الإسرائيليّة من البدء بإنتاج المنظومة لصالح الجيش الألماني، حيث ستبدأ أولى عمليّات تسليم البطاريات من العام 2025 فصاعدا. وتجدر الإشارة إلى أنّ برلين خصّصت 5 مليار يورو لبرنامج شراء وتحديث منظومة السهم" ضمن مبادرة التحديث الدفاعي التي أطلقتها بعد حرب أوكرانيا والبالغة قيمتها الإجماليّة 100 مليار يورو.
صفقة الأمس تُضاف إلى الصفقة التي وقّعتها وزارة الدفاع الإسرائيليّة مع نظيرتها الفنلنديّة بعد يومٍ واحدٍ فقط من انضمام هلسنكي إلى حلف شمال الأطلسي "الناتو" في نيسان الماضي. وبموجب تلك الصفقة التي بلغت قيمتها 344 مليون دولار، ستبيع إسرائيل للجيش الفنلندي منظومة "مقلاع دواد" المُصممة لمجابهة مخاطر الصواريخ البالستيّة والصواريخ المُجنّحة. وتكمن أهميّة المنظومة بالنسبة لهلسنكي في أنّها ستُضيف طبقة جديدة أبعد مدى لنظام الدفاع الجويّ الفنلندي مُتعدد الطبقات، والذي يعتمد بشكلٍ رئيسيّ على المنظومات النرويجيّة والسويديّة قصيرة ومتوسطة المدى مثل NASAMS وASRAD-R.
منظومات الدفاع الجويّ الإسرائيليّة هي مُحصّلة للبرنامج الدفاعيّ الضخم الذي أطلقه الرئيس الأمريكيّ رونالد ريغان عام 1983، وهو البرنامج الذي أطلق عليه مُنتقدوه اسم "حرب النجوم" آنذاك، واعتبر الإعلان عنه بمثابة تحوّل استراتيجيّ في سياسة الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة وخروجا عن عقيدة الردع النووي المتبادل التي كانت تحكم الصراع مع الاتحاد السوفييتي. برنامج ريغان فتح الباب أمام الصناعات العسكريّة الإسرائيليّة لتُصبح شريكة كاملة لنظيرتها الأمريكيّة في تطوير منظومات الدفاع الجويّ المتقدّمة، وكانت منظومة "السهم" أوّلى ثمرات هذا التعاون المشترك، حيث جُرّبت النسخة الأولى منه بنجاح في الأعوام 1992-1994 ودخل الخدمة فعليّا عام 2000. وفي أعقاب ذلك، توالى تطوير وتفعيل المنظومات الأخرى كـ "القبّة الحديديّة" و"مقلاع دواد"، والتي تُنتج اليوم ضمن شراكاتٍ بين المؤسسات العسكريّة الإسرائيليّة والأمريكيّة.
تصدير "السهم" لألمانيا و"مقلاع داود" لفنلندا يُمثّل تحوّلا كبيرا بالنسبة للصناعة العسكريّة الإسرائيليّة. فألمانيا وفنلندا هما أوّل بلدين سيحصلان على هاتين المنظومتين منذ إنتاجهما ودخولهما الخدمة، حيث فرضت الولايات المتحدة في السابق حظرا على تصدير إسرائيل لهذه الأنظمة المتقدّمة، ويحتاج توقيع كلّ صفقة من هذا النوع إلى موافقة أمريكيّة مُسبقة. من المتوقع أن تفتح الصفقات الأخيرة الباب أمام شركات السلاح الإسرائيليّ لبيع المزيد من هذه المنظومات للدول الأوروبيّة في المستقبل، خاصّة في ظلّ تنامي برامج التحديث الدفاعي بعد حرب أوكرانيا، وهي برامج تُركّز بشكلٍ كبير على تطوير منظومات الصواريخ على وجه الخصوص. فقد أطلقت ألمانيا في آب 2022 مبادرة "درع السماء الأوروبيّة" التي التحق بها حتى الآن 19 بلدا غربيّا بغية بناء نظام دفاع جويّ موحّد يحمي سماءات القارّة العجوز من مخاطر الصواريخ البالستيّة والمسيّرات الانتحاريّة وغيرها من المخاطر، بينما اتفقت البلدان الإسكندنافيّة في آذار الماضي على تشكيل حلفٍ مشترك للدفاع الجويّ لبلدان الشمال.
لكنّ الأهم من هذا كلّه هو أنّ هذه الصفقات تحمل تحوّلا أكثر أهميّة وعمقا، وهو اتساع الدور الذي ستلعبه إسرائيل في ترتيبات الأمن والدفاع الأوروبيّة والآسيويّة الجديدة والتي لا تزال في طور التبلور. فالحرب الأوكرانيّة ستعيد تغيير توازنات القوى في أوروبا والفضاء الأوراسيّ والقوقاز تدريجيّا، كما أنها ستساهم في نقل جانبٍ من الصراع في الشرق الأوسط إلى قلب القارة العجوز كما يتجلّى الآن بين تل أبيب وطهران. في مطلع الثمانينيّات، اختارت الولايات المتحدة إسرائيل كشريكٍ استراتيجيّ للتصدّي للخطر السوفييتي، وذلك عبر إشراكها في برامج الدفاع الاستراتيجي، وها هي اليوم تُعيد الكرّة وتفوّض إسرائيل بلعب دور المقاول العسكريّ الرئيسيّ للأمن الأوروبيّ، ومن يمكنه لعب هذا الدور أفضل من مصنع السلاح المُسمّى إسرائيل؟