عثرتُ بالأمس على هذه الوثيقة النادرة، وهي أمر استسلامٍ أصدره جيش العدو في التاسع من تشرين ثاني 1956، وذلك بعد احتلاله لقطاع غزّة إبان العدوان الثلاثيّ على مصر. بدأ احتلال القطاع بالسيطرة على رفح في الأوّل من تشرين ثاني عبر هجومٍ بلواء مُشاة يقوده حاييم لاسكوف ولواء مُدرّعات يقوده حاييم بارليف، وقد أصبح القطاع بعد الهجوم على المدينة الجنوبيّة وتصفية دفاعاتها معزولا تماما عن خطوط الإمداد المصريّة.
وفي اليوم التالي، تقدّم اللواء 11 مُشاة بقيادة أهارون دورون من اتجاه تلّة علي المنطار شرقيّ المدينة وبدأ بإسكات مواقع المدفعيّة المصريّة على حدود غزّة وفي شماليّ القطاع، وذلك قبل أن يطلب الحاكم الإداريّ المصريّ اللواء محمد فؤاد الدجوي، عبر مُراقبي الهدنة الأمميين، من الإسرائيليين تسلّم القطاع. وقد قام الدجوي بإرسال مندوبٍ عنه للطواف على المواقع المصريّة برفقة ضابطٍ إسرائيليّ آمرا ما تبقّى من المواقع المصريّة بالتسليم.
إلا أنّ المواقع الموجودة في خانيونس، والتي كان يرابط فيها لواءٌ من الجنود الفلسطينيين، رفضت الاستسلام واستمرّت في القتال حتّى اليوم التالي، لكنّ نيران المدفعيّة الإسرائيليّة كانت متفوّقة عليها واستطاعت هزيمتها في نهاية المطاف. وقد شرعت قوّات العدو في اليوم الثالث من تشرين ثاني بحملة مُطاردة في خانيونس لمن تبقّى من الجنود وارتكبت هناك مجزرة راح ضحيّتها العشرات من الفلسطينيين. وفي اليوم الثاني عشر من الشهر نفسه، ارتكبت قوّات العدو مجزرة أكبر في رفح ضمن حملاتها القمعيّة في الأيّام الأولى من الاحتلال.
كان بن غوريون يحمل في قلبه مرارة كبيرة بسبب عدم طرد القوّات المصريّة من القطاع خلال عمليتيّ "يوآف" و"حوريف" في حرب 1948-1949. وقد ظلّ هاجس المشكلة الدفاعيّة من الخاصرة الساحليّة الجنوبيّة مُسيطرا عليه إلى درجة دفعته إلى اجتراح حلول غير تقليديّة. ففي عام 1949، اقترح بن غوريون أن تقوم إسرائيل بضمّ قطاع غزّة بسكّانه إلى إسرائيل، إلا أنّ هذا المقترح لقي مُعارضة مصريّة علاوة على معارضة إسرائيليّة داخليّة ولم يُكتب له النجاح. وفي عام 1956، عشيّة العدوان الثلاثي، أعاد بن غوريون الكرّة حين كان وزيرا للدفاع مُقترحا أن يقوم الجيش بطرد القوّات المصريّة من القطاع، إلا أنّ الكابينيت الإسرائيليّ لم يوافق على مقترحه ذاك.
وهكذا، فقد مثّل العدوان الثلاثيّ فرصة ذهبيّة لبن غوريون لينفّذ مُخطّطاته القديمة إزاء قطاع غزّة، إذ سارع في أعقاب السيطرة على غزّة للإعلان من منبر الكنيست أنّ اتفاقيّة الهدنة الإسرائيليّة المصريّة ماتت وأنها لن تعود إلى الحياة مُجدّدا، ما يعني عمليّا أنّ خط الحدود الفاصل بين إسرائيل والقطاع لم يعد قائما. ولم يفوّت الرجل فرصة واحدة من أجل التشديد على أنّه مهما كانت نتيجة التسوية السياسيّة التي سيتمخّض عنها العدوان الثلاثيّ، فإنّ عودة قطاع غزّة إلى المصريين لا يجب أن تكون جزءا منها بأيّ حالٍ من الأحوال. لكن مُقاربة بن غوريون أصبحت الآن أكثر "واقعيّة"، فبدلا من الضم، ارتأى أن تكون الإدارة الإسرائيليّة سلطة الأمر الواقع في القطاع وأن تعمل على تسكين الأوضاع الأمنيّة فيه من خلال تحسين الظروف المعيشيّة للسكّان.
إلا أنّ موازين القوى الدولية في تلك اللحظة لم تكن في صالح إسرائيل، فقد أجبرتها الولايات المتحدة في النهاية على الانسحاب من سيناء وغزّة. وما إن بدأت القوّات الإسرائيليّة انسحابها من غزّة في آذار 1957 وحلّت قوّات الطواريء الدوليّة مكّانها، حتى هبّت جماهير قطاع غزّة هبّة شعبيّة عارمة مُطالبة بعودة الإدارة المصريّة، وهو ما جرى في النهاية... وهكذا كان على بن غوريون أن ينتظر لعقدين كاملين ليرى ما تمنّاه طويلا يتحقّق في غزّة.