مع أزمة الوباء خلال الأعوام الماضية ثم اندلاع الحرب الأوكرانيّة وسعي العديد من البلدان لإعادة هيكلة بناها الاقتصاديّة والعسكريّة في ضوء تصاعد التنافس الجيوبولتيكي، أطلّ موضوع السكّان والديموغرافيا برأسه من جديد، فارضا نفسه على النقاشات الدوليّة حول توازنات القوى العالميّة وصراعاتها. وقد زاد من حيويّة هذا الموضوع أنّ الأزمات الديمغرافيّة لم تعد مقتصرة على البلدان الغربيّة المتقدمة التي لطالما اشتكت من انخفاض عدد السكان كألمانيا وإيطاليا مثلا أو مراكز التصنيع التقليديّة في آسيا كاليابان وكوريا الجنوبيّة، بل باتت تطال تلك البلدان الطامحة للعب دورٍ أكبر على المسرح الدوليّ سياسيا واقتصاديّا كروسيا والصين.

ويميل المراقبون في العادة إلى تقييم قوّة الدول بالاعتماد على المؤشرات الاقتصاديّة الكليّة وكذلك المؤشرات العسكريّة، لكنهم لا يولون نفس القدر من الاهتمام بالمؤشرات السكّانية رغم أهميّتها البالغة في فهم تطوّر المجتمعات وقدرتها على استغلال قواها الكامنة، وفي التعرّف على التأثيرات المحتملة لتحوّلات الديمغرافيا على الكثير من جوانب حياة هذه المجتمعات والسياسات المحليّة والخارجيّة للدول في المدى الطويل.

وتُقدّم روسيا نموذجا لبلدٍ مترامي الأطراف يمرّ بأزمة ديمغرافيّة حقيقيّة تُفاقمها الحرب الحاليّة في أوكرانيا والتي لا يبدو أنّها ستنتهي في المدى المنظور. وقد يكون أبرز العقابيل التي ستترتّب على هذه الأزمة تآكل القوّة الروسيّة بمعناها العسكريّ والاقتصاديّ في المستقبل وصعود المكوّن الديمغرافيّ المسلم في ضوء تزايد الهجرات من آسيا الوسطى إلى المدن الروسية، وهذا التطوّر الأخير قد تكون له تأثيرات كبيرة على السياسة الروسيّة الداخليّة في المستقبل، ولعلنا نرى اليوم جانبا من هذه التأثيرات في صورة الحضور المهمّ للجنود المسلمين في الجهد الحربيّ الروسيّ في أوكرانيا.

قام معهد الأمن القوميّ التابع لجامعة تل أبيب بنشر تقريرٍ يُلقي بعض الضوء على جوانب الأزمة الديمغرافيّة في روسيا. وقد ارتأيتُ، لأغراض تعميم الفائدة بشأن هذا الموضوع المهم، تلخيص أهم النقاط والإحصاءات التي تضمنها التقرير، وهي ملاحظاتٌ قد تمنحنا زاوية جديدة للنظر في الصراع الدائر الآن بين الغرب وروسيا ومآلاته، كما قد تكون مفيدة أيضا في توسيع مداركنا إزاء فهم ديناميكيّات القوّة والنفوذ للقوى الصاعدة، خاصّة وأن الصين هي واحدة من البلدان التي تعاني نفس الأزمة حاليا وذلك في غمرة التحوّل نحو اقتصادٍ يعتمد أكثر فأكثر على السوق الداخليّ والاستهلاك المحلّي بدلا من التصدير.

  • العامل الأوّل الرئيسي الذي قاد إلى الأزمة الديمغرافيّة في روسيا هو انخفاض متوسّط العمر المتوقّع. ورغم أنّه هنالك إجمالا علاقة طرديّة بين مستويات التعليم ومتوسّط العمر المتوقع، كما يُشير التقرير، إلا أنّ هذه القاعدة لا تسري في روسيا. فرغم أن معدّلات التحاق الشباب الروسي بالتعليم العالي أعلى من نظيرتها في البلدان الأوروبيّة، إلا أنّ هذا الأمر لا يُترجم في صورة زيادة في متوسّط العمر المتوقع. ويقول التقرير أن هنالك في روسيا ظاهرة تجعلها متشابهة مع بلدان العالم الثالث، وهي الفجوة الكبيرة نسبيّا بين متوسّط العمر المتوقع بين الرجال والنساء، حيث يبلغ لدى لدى المجموعة الأولى 64 سنة، بينما يبلغ لدى المجموعة الثانية 75 سنة. السبب الرئيسيّ في انخفاض متوسّط العمر المتوقّع، بحسب التقرير، هو ضعف النظام الصحيّ في البلاد. كما أنّ انخفاض هذا المتوسط في أوساط الرجال مردّه الاستهلاك الكبير للكحول بكلّ المشاكل المرافقة له، ابتداءً بالمشكلات الصحيّة وانتهاء بجرائم القتل وحوادث الانتحار.
  • العامل المهمّ الثاني هو معدّل الولادات المنخفض، والذي يُشير إلى أنّه اتخذ منحى هبوطيّا بعد حرب القرم في العام 2014. بحسب التقرير، بلغ معدّل الولادة 1.5 طفل لكل امرأة روسيّة في العام 2021، في الوقت الذي تحتاج البلاد إلى معدّل يبلغ 2.1 طفلا لكلّ امرأة حتى تحافظ على عدد سكّانها الحالي، هذا دون احتساب تأثيرات الحروب والأوبئة. يُشير التقرير إلى أنّ معدّل الولادات في روسيا ليس منخفضا على نحو خاص مقارنة ببقيّة الدول المتقدمة، إلا أنه إذا وضع إلى جانب متوسّط العمر المنخفض، فهو يعني أن عدد سكان روسيا ينخفض بشكلٍ أسرع من هذه البلدان. ويضيف إلى أنّ روسيا تعرضت لضربة قويّة من فايروس "كورونا"، حيث قاد انتشار الوباء إلى وفاة ما بين 600 ألف ومليون إنسان، وهو واحد من أعلى الأرقام المسجلة عالميا إذا ما أخذناه كرقمٍ مُطلق.
  • اتخذت الحكومة الروسيّة خلال العقدين الماضيين مجموعة متنوّعة من الإجراءات لعلاج المشكلة الديمغرافيّة. ففي العام 2008، كشف "الكرملين" عن خطّة لتقديم حوافز ماليّة للأسر التي تُقدم على إنجاب طفلٍ ثانٍ. وبموجب الخطّة، تحصل العائلة التي تُنجب طفلا ثانيا على مساعدة لمرّة واحدة بقيمة 300 ألف روبل، وهو ما يُعادل 5,200 دولار أمريكي. كما أنّ العائلات الفقيرة تحصل في إطار الخطّة على مساعدات ماليّة من أجل سداد القروض العقارية. هذه الإجراءات، كما يُشير التقرير، لم تنجح في علاج المشكلة أو التخفيف من حدّتها، بل إنها ساهمت في زيادة الفقر وعدم المساواة وتحديدا في أوساط الأطفال، إذ أنّ الإعانة الماليّة المُقدمة من الحكومة لم تكن كافية لرعاية الطفل الثاني، مُشيرا إلى أنّ واحدا من بين خمس أطفال روس يعيش تحت خطّ الفقر.
  • عمّقت الحرب في أوكرانيا من الأزمة الديمغرافية. فعمليّات التعبئة الواسعة والمعارك في أوكرانيا فرضت ثمنا قاسيا على الجيش الروسي، حيث تُقدّر أعداد القتلى الروس في الحرب الأوكرانيّة، بحسب أرقام وسائل الإعلام الروسيّة المستقلّة، بحوالى 47 ألف قتيل، بينما تضعها التقديرات الغربيّة عند أرقام أعلى من ذلك. يقول التقرير إلى أنّ التأثير الكبير للحرب الأوكرانيّة لا يتمثّل في أعداد الضحايا بل في ارتفاع معدّلات الهجرة وانخفاض معدلات الولادة. شهدت روسيا في عام 2022 موجتين من الهجرة. الأولى وقعت بعد الغزو لأوكرانيا في شباط، والثانية وقعت في أيلول من نفس العام حين أُعلن قرار التعبئة الجزئيّة للقوّات، وتُشير التقديرات إلى أن ما بين 600-800 ألف روسي غادروا البلاد خلال عام 2022. يُشير التقرير إلى أن حوالى 5% من جميع الرجال الروس البالغة أعمارهم 20-40 سنة قد هاجروا من البلاد أو جرى استدعائهم للخدمة في الجيش، وأن لهذا الأمر تأثير كبير على معدّلات الولادة، الذي اقترب في الأشهر الأولى من عام 2023 إلى أدنى مستوياته منذ انهيار الاتحاد السوفييتي. بحسب التقرير، فإن حالة عدم اليقين إزاء النتيجة النهائيّة للحرب تزيد من الضغط على معدّلات الولادة، وهو ما يمكن رصده من زيادة الطلب على حبوب الإجهاض خلال العام الذي انطلقت فيه الحرب.
  • الأثر الثاني للحرب هو توجيه المزيد من الموارد الاقتصاديّة والبشريّة للماكنة العسكريّة على حساب خدمات الرفاه وقطاعات الصحّة والتعليم، وهو الأمر الذي ستكون لها آثار اقتصاديّة سلبيّة على المجتمع ككل. سكّان روسيا في تناقصٍ مستمّر وتركيبتهم تتغيّر أيضا، فبينما يغادر الشباب المتعلّم البلاد، تزداد أعداد اللاجئين من أوكرانيا وجُلّهم من العجزة والنساء والأطفال. يقول التقرير إلى أنّه بينما يسعى بوتين لتشكيل وجه المجتمع الروسيّ وتقوية نظامه من خلال نشر القيم الحافظة التي تقوم على الدور التقليديّ للأسرة في مقابل الأفكار الغربيّة عن الديمقراطيّة والليبراليّة، فإنّ هنالك شكوك عميقة من إمكانيّة أن تتمكّن روسيا من كبح الاتجاه الديمغرافيّ الحالي بكلّ مشكلاته وتقليص الفوارق الاجتماعيّة بين المدن والأطراف، وجاءت الحرب لتزيد الطين بلّة، وهو الأمر الذي من شأنه ترك تأثيرات سلبيّة على الاقتصاد والمجتمع الروسيين في المدى المتوسّط.

 

(Visited 85 times, 1 visits today)