في أعقاب حرب العام 1948، واجهت إسرائيل تحديين رئيسيين. الأوّل كان مدّ المشروع الاستيطانيّ إلى المناطق المُقفرة البعيدة عن المركز من أجل تثبيت السيادة الإسرائيليّة عليها بشكلٍ حاسم، والثاني بناء وجودٍ دفاعيّ على الحدود الجديدة للدولة مع بلدان الطوق العربي.
مثّلت المشكلة الدفاعيّة هاجسا بالنسبة للقادة العسكريين الإسرائيليين الذين وجدوا أنفسهم أمام مهمّة الذود عن حدود مُعادية وطويلة وعميقة جغرافيّا وبشريّا بالنسبة لحجم إسرائيل التي كانت تفتقر في ذلك الوقت للعمق الجغرافي وللموارد العسكريّة والبشريّة والرعاية الدوليّة على حدّ سواء. لذلك، قد لا يبدو غريبا أنّ الاسم الرسميّ الذي اتخذه الجيش منذ لحظة تأسيس الدولة كان "جيش الدفاع الإسرائيلي" وليس "القوّات المسلحة الإسرائيليّة" أو "الجيش الإسرائيليّ" مثلا.
أدرك بن غوريون أنّ حلّ المشكلة الدفاعيّة يُمكن أن يتحقّق فقط من خلال عقيدة عسكريّة هجوميّة. وقد صاغ في النصف الأوّل من الخمسينيّات، المفاهيم العامّة للعقيدة الهجوميّة الإسرائيليّة القائمة على الضربة الاستباقيّة ونقل المعركة إلى أرض العدو في أولى ساعات الحرب، وعلى الدور المركزيّ للاستخبارات في مجال الإنذار المُبكّر الذي يتيح تعبئة القوّة الضاربة للاحتياط في الوقت المناسب.
وفي حقيقة الأمر، لم تبدأ هذه العقيدة بالتبلور بالمعنى العمليّ إلا بعد العدوان الثلاثيّ على مصر عام 1956. فالمشاركة في العدوان الثلاثي فتح مخازن السلاح الفرنسيّ أمام إسرائيل، وتحديدا الطائرات المُقاتلة. وقد مكّن هذا الأمر العسكريين الإسرائيليين من البدء بصياغة عقيدة الهجوم الجويّ الاستباقيّ على مطارات العدو (بدأ في العام 1959 تطوير المفهوم الهجوميّ لعملية "موكيد" – البؤرة التي استطاعت إسرائيل من خلالها تدمير الطيران العربي على الأرض في حرب حزيران 1967. وربما لم تنشأ عقيدة حربيّة في تاريخ العسكريّة الحديث تتمحور بهذا القدر حول سلاحٍ واحد هو الطيران ومفهومٍ عملياتيّ واحد قائم على الضربة الجوية الأولى كما هو الحال مع العقيدة الإسرائيليّة).
ولأنّ تحديي الاستيطان والدفاع اللذين واجها إسرائيل بعد حرب العام 1948 كانا مرتبطين عضويّا ببعضهما البعض، ولأنّ إسرائيل لم تكن في ذلك الوقت مُسلّحة بالقدر الذي أصبحت عليه بعد العدوان الثلاثي، فقد كانت مستوطنات "الناحال" واحدة من الحلول المُتقشفة التي تخيّلها بن غوريون لمجابهة التحديات الجديدة.
واسم "الناحال" بالعبريّة هو اختصارٌ لـ "شباب طلائعيّ مقاتل" (نوعار حلوتسي لوحيم). وقد بدأ هذا المشروع في أعقاب النكبة، وكان يستند إلى نموذج كيبوتس يجمع أعضاؤه بين العمل الزراعي في النهار وأداء مهام الحراسة في الليل. وقد أُريد لمستوطنات "الناحال" أن تكون خطّ الدفاع الأول في وجه الهجمات الحدوديّة العربيّة وأن تُشكّل قاعدة للعمليّات والموارد للقوّات الإسرائيليّة التي تنشط في المناطق الطرفيّة. ولذلك، فقد تركّزت كيبوتسات "الناحال" الأولى بشكلٍ خاص في مناطق وادي الأردن والنقب وحدود غزّة.
كان أوّل كيبوتس "ناحال" يجري تأسيسه هو كيبوتس "ناحال عوز" المُتاخم لحدود غزّة الشرقيّة، بالقرب من تلّة المنطار، وذلك في العام 1951. كان "ناحال عوز" ليبقى مجرّد كيبوتس صغير بلا مكانة كبيرة في تاريخ الوعي الصهيونيّ لولا حادثة وقعت في نيسان من العام 1956. ففي إحدى ليالي ذلك الربيع، وقع روعي روتنبرغ، حارس الأمن في الكيبوتس، في كمينٍ مُسلّح على الحدود، نصبه له فدائيون فلسطينيون ومصريون. وقد تمكّن مهاجمو روعي من سحب جثته إلى غزّة قبل أن يُعيدوها في اليوم التالي لإسرائيل من خلال قوّات الأمم المتحدة، وعليها آثار عددٍ هائل من الرصاصات.
مقتل روتنبرغ، الشاب اليافع، ابن الواحدة والعشرين، ألهب مشاعر الإسرائيليين في غمرة تصاعد عمليّات الفدائيين عبر الحدود. وكان لمقتله بالغ الأثر في موشيه دايان بالذات. فقد تصادف أن قابل دايان روتنبرغ قبل يومٍ واحدٍ من مقتله، وكان الأول يشغل منصب رئيس أركان الجيش الإسرائيليّ في ذلك الوقت. وبعد دفن روعي، ألقى دايان أمام قبره خطابا رثائيّا اُعتبر أكثر الخطابات تأثيرا في تاريخ إسرائيل، إذ ظلّت عباراته بصراحتها شديدة الفجاجة وصرامتها الاستثنائيّة، تدقّ كناقوسٍ في وعي أجيالٍ من الإسرائيليين لعقود، داعية إياهم للإبقاء على السيف مُشهرا بلا تعب أو نكوص، أو كمال قال دايان:
"يوم أمس قُتل روعي. الصباح الهاديء في اليوم الربيعي أعمى عينيه عن رؤية من يتربصون به خلف ذلك الخندق. دعونا لا نوجه الاتهامات اليوم إلى القتلة. لماذا نشكو من كرههم الشديد لنا؟ منذ ثماني سنوات يقيمون في مخيمات لاجئين في غزة، ونحن أمام أعينهم نحوّل أراضيهم والقرى التي سكنوا فيها هم وأجدادهم إلى منازل ووطن لنا. علينا أن نطلب دم روعي ليس من العرب في غزة، بل من أنفسنا. كيف فشلنا في أن نرى بأعيننا مصيرنا، ومصير جيلنا بكل قسوته ووحشيته؟ هل نسينا أن هذه المجموعة من الشبان الذين يعيشون في "ناحال عوز" يحملون على أكتافهم عبء أبواب غزة الثقيلة، التي تتكدس وراءها مئات الآلاف من العيون والأيدي التي تنتظر ضعفنا حتى تمزقنا أشلاء؟ هل نسينا هذا؟ إننا نعلم أنه من أجل القضاء على أملهم في إبادتنا، يجب علينا أن نكون مسلحين ومستعدين صباح مساء. نحن جيل المستوطنين، وبدون المدافع والخوذ الفولاذية لن يمكننا أن نزرع شجرة أو نبني منزلاً. لن تكون هناك حياة لأطفالنا إذا لم نحفر الملاجيء، وبدون البنادق وأسوار الأسلاك الشائكة لن نتمكّن من رصف الطرق أو حفر آبار المياه. الملايين من اليهود الذين تمت إبادتهم لعدم وجود دولة لهم يراقبوننا من رماد التاريخ الإسرائيلي ويحثوننا على الاستيطان وبناء أرض لشعبنا. وهناك من وراء تلك الخنادق على الحدود بحرٌ من الكراهية وأحلام الانتقام في انتظار اليوم الذي نتراخى فيه ونركن إلى الهدوء. كلا لن نستمع لأصوات سفراء النفاق والمكائد المتآمرين، الذين يحثوننا على إلقاء سلاحنا. دماء روعي تنادينا وتصرخ علينا من جسده المشوّه، لأننا أقسمنا ألف مرة أن دماءنا لن تذهب هباءً، ولكننا بالأمس خُدعنا مرة أخرى، استمعنا وصدقنا. دعونا نحاسب أنفسنا اليوم. دعونا لا نتوانى عن رؤية العداوة التي تفيض بها قلوب مئات آلاف العرب الذين يسكنون حولنا وينتظرون اللحظة التي يمكنهم فيها سفك دمائنا. دعونا لا نغمض أعيننا لحظة كيلا تضعف ايدينا القابضة على السلاح. هذا هو قدر جيلنا. هذا هو خيارنا الوحيد: أن نكون مستعدين ومسلحين، وقويين وصلبين، لأنه إذا انزلق السيف من قبضة أيدينا فستنتهي حياتنا".