أعلنت إسرائيل في منتصف شهر يونيو حزيران الماضي موافقتها المبدئيّة على تطوير حقل "غزّة مارين" للغاز الطبيعيّ، الواقع على مسافة 36 كيلو مترا قُبالة سواحل مدينة غزّة. الإعلان صدر في حينه عبر بيانٍ من مكتب رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو، وقد جاء فيه أنّ إسرائيل توافق مبديئّا على تطوير الحقل، وترى أنّ التقدم في استغلال موارده مرهونٌ بـ "الحفاظ على الاحتياجات الأمنيّة والدبلوماسيّة لدولة إسرائيل".

لم تكن تلك المرّة الأولى التي يطفو فيها اسم "غزّة مارين" إلى السطح. فمنذ اكتشافه عام 1999، جرت الكثير من المداولات بين الأطراف الإقليميّة والدوليّة المعنيّة من أجل تطويره واستغلال موارده لحلّ مشكلات الطاقة المُتفاقمة في الأراضي الفلسطينيّة المُحتلّة، وتحديدا قطاع غزّة، الذي يعيش أزمة كهرباء خانقة منذ قصف محطّة توليد الطاقة الوحيدة فيه عام 2006 وتشديد الحصار الإسرائيليّ عليه منذ ذلك الوقت. إلا أنّ جميع هذه المداولات والجهود لم تصل لنتيجة بسبب امتناع إسرائيل عن منح الموافقة على تطوير الحقل.

الموافقة التي أعطتها إسرائيل موخرا جاءت بسبب الضغوط الأمريكيّة المتزايدة على نتنياهو في السنة الأخيرة لتقديم تسهيلاتٍ معيشيّة للفلسطينيين. وقد أشار السفير الأمريكيّ في تل أبيب، توماس نيدس، قبيل مغادرته لمنصبه الشهر الماضي، إلى أنّه لعب دورا حاسما في انتزاع الموافقة الإسرائيليّة على حزمةٍ من التسهيلات المعيشيّة للأراضي المحتلّة وعلى رأسها تطوير حقل "غزّة مارين".

لديّ قناعة، وقد أكون مخطئا فيها، وهي أن إسرائيل ستتملّص في النهاية من موافقتها المبدئيّة هذه، وأنها لن تسمح بتطوير الحقل وتمكين الفلسطينيين من الاستفادة من موارده لاعتباراتٍ لا مجال لذكرها الآن. لكنني سأفترض جدلا بأنّ الحقل سيطوّر بالفعل، وسأشارككم، على هذا الأساس، مجموعة من الملاحظات الفنيّة والسياسيّة التي قد تكون مفيدة للنقاش العام حول هذه المسألة الحساسّة، خاصّة أن غياب هذا النقاش فلسطينيّا، والذي يترافق مع شحّ في المعلومات، إنّما يزيد من الغموض حول الموضوع. والغموض، كما نعلم جميعا، أرضٌ خصبة لنموّ المبالغات والاستخلاصات البعيدة عن الواقع. كما أنّ الغموض، علاوة على ذلك، يبقى حالة مثاليّة بالنسبة لأولئك الذين يريدون عقد صفقات سياسيّة أو تجاريّة رابحة بعيدا عن أعين العامّة وأسئلتهم.

والملاحظات التي سأقدّمها هنا ليست شاملة ولا مترابطة ولا تُغطّي الأمر من جميع جوانبه حتما، إنّما هي تدوينٌ لما خطر في ذهني لحظة الكتابة حول العوامل التي يمكن لها التأثير على عمليّة تطوير الحقل مستقبلا. وقد كنتُ أريد نشر الملاحظات على دفعة واحدة، لكنها كثرت واستطالت، فآثرتُ أن أقسّمها على أكثر من منشورٍ واحد. فالقاريء في هذه الأيام شديد الملل قليل التركيز، وهو لا يُطيق صبرا على النصوص الطويلة. وفي نهاية المطاف، فالأمل يحذو المرء دائما أن يجد من سيقرأ الملاحظات أنّها سدّت لديه بعض الفجوات في فهم مسألة غاز غزّة على نحوٍ أفضل، وأنّها قدمت له أيضا شيئا من المعرفة العامّة عن صناعة الغاز ذاتها. أما المتعة، فهذه متوقفة على ذوق وطبيعة القاريء وميوله، لكنني أعتقد، على المستوى الشخصي، أنّ هنالك دائما سحرا خاصّا في رؤية السياسة من زاويتها التقنيّة.

  • يُمكن لنا تقدير إنتاج حقلٍ من الغاز الطبيعيّ وتكلفته الاستثماريّة الإجماليّة بشكلٍ قريبٍ من الدقّة حتى في ظل شحّ المعلومات المتوفرة عنه. أمّا الإنتاج، فبإمكاننا تقديره من خلال الاعتماد على أرقام الاحتياطيّات المُعلنة للحقل أو المواصفات الهندسيّة الخاصة بالمرافق المُزمع تشييدها فيه مستقبلا. وأمّا تكاليفه الاستثماريّة الإجماليّة، فيمكننا تقديرها من خلال اعتماد منهجيّة "المُناظر"، والتي تقوم ببساطة على اختيار حقلٍ شبيه بالحقل الذي نقوم بدراسته من ناحية الحجم والمواصفات الفنيّة والجيولوجيّة، ولكن تتوافر عنه معلوماتٌ أفضل، ومن ثمّ استخدام بياناته هذه لإجراء عملية معايرة وقياس لتقدير تكلفة الحقل الذي نعمل عليه. ونحن هُنا إنما نقوم بشيءٍ شبيه بما يفعله محللو الاستخبارات، حيث نجمع نتفا من المعلومات مهما كانت صغيرة ومتباعدة ونحاول ربطها ببعضها البعض ونستخدم معرفتنا التقنيّة للمجال -صناعة النفط والغاز في حالتنا هذه- من أجل استخلاص تقديراتٍ قريبة من الصحّة. وهذا الضرب من التحليل شائعٌ ومتجذّر وله قبول واسعٌ في أوساط العالم الماليّ والصناعيّ في كلّ مكان.
  • حقول الغاز الطبيعيّ لها سلوكٌ إنتاجيّ معياريّ معروف. قد يختلف هذا السلوك من حقل لآخر تبعا لطبيعة الجيولوجيا للحقل أو حجم الاستثمارات فيه أو مستويات الطلب على موارده أو طبيعة التكنولوجيا المستخدمة لاستخراج هذه الموارد، لكنّ هذا السلوك يبقى متشابها بشكلٍ عام في كلّ الحقول، ربما عدا حقول الغاز الصخريّ التي لها سلوكٌ مختلفٌ نسبيّا. فبعد الانتهاء من تطوير المشروع، يبدأ إنتاج الغاز بالتصاعد رويدا رويدا حتى يصل لذروته، وبعد ذلك يدخل الإنتاج مرحلة من الثبات النسبيّ تُسمّى بالـ Plateau، قبل أن يبدأ بالانخفاض بنسبٍ تتراوح بين 10-30% قبل الوصول لمرحلة النضوب. وفي هذا الصدد، فإنّ هنالك حاجة ماسّة لمعرفة طبيعة الاحتياطيّات التي نبني عليها تقديرنا. فالاحتياطيّات ليست صنفا واحدا، إذ أنّ هنالك احتياطيّات يُمكن استخراجها فعلا، وهنالك احتياطيّات قد لا يكون من المتاح استخراجها إما لغياب الجدوى الاقتصاديّة أو بسبب الافتقار للتكنولوجيا مثلا. وكقاعدة عامّة في حقول الغاز، فإنّ ما سنستخرجه قد يتراوح بين بين 70-75% من إجمالي الاحتياطيّات، لأنّ الضغط في الحوض الجيولوجي الذي يحتوي الغاز سوف يتناقص مع مرور الزمن ويمنع تدفّق المادة الخام بنفس قوّة المعدلات السابقة، الأمر الذي الذي يجعل المشروع غير مُجدٍ من الناحية التشغيليّة.
  • من الناحية العمليّة، وفي ضوء ما هو قائمٌ من بنى تحتيّة للطاقة في منطقة شرق المتوسّط، فإنّ حقل "غزّة مارين" يُمكن تطويره من خلال ثلاثة طرق. الطريق الأوّل هو تطوير الحقل عبر نظام إنتاج تحت الماء (Subsea Production System) مُتّصلٍ بأنبوب إلى شاطيء غزّة ومنها إلى محطّة توليد الكهرباء الموجودة هناك، والتي صمّمت بالأساس للعمل بالغاز الطبيعي. الطريق الثاني هو تطوير حقل "غزّة مارين" بالاعتماد على مرافق إنتاج حقل "تامار" الموجودة قُبالة شواطيء عسقلان ومدّ أنبوبٍ من هناك إلى محطّات استقبال الغاز الإسرائيليّة في مدينة أسدود ومنها إلى غزّة عبر أنبوبٍ أرضي أو تحت مياه البحر. أمّا الطريق الثالث فهو تطوير الحقل من خلال ربطه بأنبوبٍ بمرافق الإنتاج الموجودة في المياه المصريّة بالقرب من الحدود البحريّة للقطاع أو مباشرة إلى شبكة نقل الغاز المصريّة في العريش مثلا. إنّ كل طريق من هذه الطرق سيكون له هيكل تكاليف استثماريّ وتشغيليّ مختلف عن الآخر، إلا أنّ هذه التكاليف، بغضّ النظر عن الطريق التطويري المتّبع، ستبقى في الحدود التي ذكرناها في المنشور السابق، قد تنقص قليلا أو تزيد قليلا حسب كل طريقة. كما أنّ السعر الذي سيُباع عنده الغاز الطبيعيّ المُستخرج من الحقل قد يختلف بنسبٍ طفيفة تبعا للطريق الذي سيطوّر من خلاله الحقل وللسوق الذي سيُباع فيه الغاز. وكقاعدة عامّة على مستوى العالم، يجري تسعير الغاز المُباع من خلال الأنابيب من خلال ربط سعره بأسعار خام "برنت" مع السماح بهامشٍ مئويّ هبوطا وصعودا لحماية البائع والمشتري من التقلّبات المُحتملة في أسعار النفط.
  • من الواضح أنّ الترتيبات السياسيّة والمعيشيّة التي جرت مناقشتها خلال السنتين الأخيرتين تنحو باتجاه الخيار المصريّ لتطوير الحقل. ففي شباط/فبراير2021 زار وزير البترول المصري طارق الملا رام الله على رأس وفدٍ من المسئولين المصريين، حيث جرى توقيع مذكرة تفاهم لتطوير حقل "غزّة مارين"، ووقع المذكرة من الجانب الفلسطينيّ محمد مصطفى رئيس مجلس إدارة صندوق الاستثمار ومن الجانب المصري مجدي جلال، رئيس الشركة المصريّة القابضة للغازات الطبيعيّة "إيجاس". وفي نهاية تشرين أوّل/أكتوبر 2022، أفادت تقارير صحافيّة أن مصر تمكّنت، بعد مفاوضاتٍ استمرّت لبضعة أشهر، من التوصّل لتفاهمٍ مع إسرائيل للموافقة على تطوير الحقل بحيث يُشرف الطرفان على عمليّة التطوير، على أن تكون شركة "إيجاس" المصريّة المطوّر الرئيسيّ للحقل بحصّة مقدارها 45% ضمن تحالف سيضمّ كلا من شركة اتحاد المقاولين العرب، وهي شركة عالمية يملكها رجال أعمال فلسطينيون، وصندوق الاستثمار الفلسطينيّ، حيث سيمتلك كلاهما حصّة إجماليّة مقدارها 55%. وقد نقلت التقارير في ذلك الوقت أنّ الاتحاد الأوروبي ضغط على إسرائيل من أجل الموافقة على تطوير الحقل بالنظر لتفاقم أزمة الطاقة الأوروبيّة بعد اندلاع الحرب الأوكرانيّة والحاجة للمزيد من الإمدادات من شرق المتوسّط. وفي حزيران/يونيو الماضي، بدأت القاهرة مباحثاتٍ مع الفصائل الفلسطينيّة في محاولة للتوصّل لاتفاق تهدئة طويل الأمد في غزّة، وقد كان ملف "غاز غزّة" على رأس جدول الأعمال. ومن غير المعروف حتى الآن ما إذا تمكّنت مصر فعلا من الوصول إلى تفاهمٍ مع الفصائل الفلسطينيّة، وعلى رأسها حركة "حماس" التي تُدير القطاع، للمساعدة في تطوير الحقل من خلال توفير بيئة من الهدوء الأمني مقابل الحصول على تسهيلات معيشيّة واقتصاديّة متنوّعة على مستوى الحركة التجاريّة ومشروعات البنيّة التحتيّة وغيرها من التسهيلات.
  • تتمثّل إشكاليّة "غزّة مارين" أنه يقع في منطقة تتكثّف فيها تعقيدات مختلفة على المستوى القانوني والسياسي والأمني. فالحقل يقع في مياه ليس لها حدودٌ متفق عليها بين الأطراف المعنيّة. فكما نعلم، رفضت إسرائيل على الدوام فكرة ترسيم الحدود، لأنها اعتبرت الفضاء الفلسطينيّ كلّه ببحره وأرضه وأجوائه مجالا لسيادتها المطلقة. ومن الواضح أن المفاوضات من أجل ترسيم الحدود البحريّة للقطاع مع مصر لم تصل حتى اللحظة إلى نتيجة حاسمة. وعلاوة على ذلك، فإنّ الحقل يقع قُبالة سواحل قطاع غزّة الذي انسحبت منه إسرائيل عام 2005، لكنّ القطاع يعتبر خاضعا حتى اللحظة، بحسب القانون الدوليّ، لقوّة الاحتلال العسكريّ الإسرائيليّ. وفي العام 2007، دخل الوضع القانوني والسياسيّ للقطاع مستوى أعلى من التعقيد، حيث قادت سيطرة "حماس" على القطاع إلى خلق وضعٍ يتميّز بازوداجيّة السلطة، فالقطاع من الناحية القانونيّة والدستوريّة يقع تحت مسئوليّة السلطة الفلسطينيّة، لكن "حماس" هي السلطة الحقيقيّة فيه. هذا الخليط المركّب من التعقيدات السياسيّة والقانونيّة، مُضافا إليها التعقيدات الأمنيّة المرتبطة بكون قطاع غزّة منطقة حروب دائمة، يعني أنّ تطوير الحقل قد لا يكون أمرا سهلا، حيث سيتطلبّ الأمر إنتاج تفاهمٍ شاملٍ وحقيقي وقابل للحياة حول هذه المسألة يُحقق للأطراف المختلفة مصالحها، حيث تريد إسرائيل الأمن وعودة جنودها الأسرى في غزّة، وتريد مصر الحصول على عوائد ماليّة من تصدير الغاز لأوروبا، وتريد السلطة عوائد الحقل من أجل دعم ميزانيتها الضعيفة، بينما تريد "حماس" أيضا حصّة من العوائد أو حلا لبعض الأزمات الإنسانيّة المتفاقمة في غزّة، إذ يصعب تخيّل تطوير الحقل واستخراج موارده بدون تفاهم معها.
  • هنالك واقعٌ جديدٌ بدأ بالتبلور في منطقة شرق البحر المتوسّط خلال السنوات القليلة الماضية وعنوانه السعي لتسوية نزاعات الحدود البحريّة بين الأطراف المُختلفة وخلق إطارات للتنسيق والتعاون والشراكة بين هذه الأطراف من أجل تسهيل تطوير واستغلال موارد الغاز الطبيعيّ الموجودة هناك. ففي تشرين الأول/أكتوبر2022، وقّعت حكومتا لبنان وإسرائيل اتفاقا لترسيم الحدود البحريّة بينهما، وهو الاتفاق الذي أتاح انطلاق الإنتاج من حقل "كاريش" في إسرائيل وفتح الباب، في الوقت نفسه، أمام تشكيل "كونسورتيوم" لبدء أعمال الاستكشاف والتنقيب في حقل "قانا" افي المياه اللبنانيّة. وتقوم إسرائيل وقبرص في الوقت الحالي بمفاوضاتٍ حثيثة من أجل حلّ النزاع الحدودي الطويل حول حقل "أفروديت" في المياه القبرصيّة، والذي اُكتشف نهايات عام 2011 ولم يجرِ تطويره حتى الآن بسبب امتداد جزءٍ منه إلى المياه الإسرائيليّة تحت اسم "إيشاي" وعجز الطرفين عن إيجاد صيغة مقبولة طوال هذه السنين لتقاسم عوائده. كما شهدت المنطقة في السنوات الأخيرة دخول لاعبين جدد ذوي وزنٍ كبير في عالم الطاقة مثل شركة "شيفرون" الأمريكيّة التي تعمل في حقلي "تامار" و"ليفياثان" وصندوق "مبادلة" الإماراتي الذي يمتلك حصّة في "تامار"، وشركة قطر للطاقة وشركة "توتال" الفرنسيّة اللتان اشترتا مؤخرا حصصا في حقل قانا اللبناني. وتلعب الدبلوماسيّة الأمريكيّة في هذا الإطار، من خلال مبعوث الإدارة آموس هوكشتاين، دورا حيويّا في عمليّة تطوير البنيّة التحتيّة السياسيّة هذه، وذلك من أجل خلق منصّة جديدة لتصدير الغاز لأوروبا وخاصّة بعد الحرب الأوكرانيّة وتعميق دور إسرائيل فيها، ومن أجل خلق قاعدة ماديّة للصفقات السياسيّة، حيث يرى بعض مسئولي الإدارة أن التخفيف من مشكلات الكهرباء في بلدان المنطقة الغارقة في الظلام قد يكون مدخلا مناسبا لفرض شروطٍ سياسيّة بعينها على الأطراف المعنيّين في هذه المنطقة تحت شعار "الكهرباء مقابل الهدوء".
  • إن وجود الموارد الطبيعيّة من نفطٍ وغاز لدى بلدٍ معين لا يعني شيء بالمعنى العملي إذا لم يكن هناك إطار قانوني وماليّ ينُظّم العلاقة بين الحكومة والمطوّرين المحتملين لهذه الموارد. وفي عالم الصناعة، يُسمّى هذا الإطار بـ "النظام المالي" (Fiscal Regime)، وهو يستند في الغالب إلى قانونٍ أو مجموعة من قوانين تُحدّد بدقّة التعريفات الخاصّة بعمليّة التعاقد بين الحكومة والشركات كما الواجبات المترتبة على الطرفين وتحديدا على الطرف الأخير. ويُحدّد هذا الإطار، على سبيل المثال، الأعمال التي يجب أن تقوم بها الشركات خلال فترة الاستكشاف وحجم الاستثمارات التي ينبغي لها إنفاقها أثناء هذه الفترة والحد الأدنى للآبار التي يجب عليها حفرها بالإضافة لواجباتٍ أخرى تتعلّق مثلا بتحقيق معايير الصحّة والسلامة والالتزام البيئي وتدريب العاملين المحليين وتفكيك المرافق الإنتاجيّة بعد انتهاء دورة حياة المشروع من بين واجباتٍ أخرى كثيرة. وتكمن أهميّة وثيقة النظام الماليّ في أنّها تُقسّم بشكلٍ واضح الالتزامات والعوائد الماليّة لكلّ طرفٍ من أطراف التعاقد والآليات التي ستخضع لها عمليّة التقسيم هذه. وبدون وجود هذه الوثيقة، فإنّ الموارد لن تلقى حظّها من الاستخراج والاستغلال، لأنّ شركات النفط والغاز ستكون أميل دائما إلى البيئة الآمنة على المستوى القانونيّ والمالي، خاصّة وأننا نتحدّث هُنا عن صناعة تنطوي على قدرٍ كبيرٍ من المخاطرّ الماليّة والتقنيّة.
  • يُمكن اعتبار وثيقة "النظام المالي" وثيقة سياسيّة بامتياز وذلك لسببين. الأوّل أنّ هذه الوثيقة تستند دائما إلى جملة من التعريفات والقوانين المعمول بها في الدولة المعنيّة وعلى رأسها الدستور الذي يؤكّد الحقوق السياديّة للدولة على ثرواتها الطبيعيّة ويرسم الحدود الجغرافيّة التي تقع هذه الموارد في نطاقها، أكان ذلك برّا أم بحرا. ولهذا السبب، فإنّ مسائل ترسيم الحدود تُعدّ مسألة حيويّة للغاية عندما يتعلّق الأمر بتطوير مشروعات النفط والغاز، ويمكن للخلافات حول الحدود البحريّة والبريّة بين الدول أن تُعطّل انطلاق هذه المشروعات لردحٍ من الزمن، والأمثلة أمامنا في مياه الخليج العربيّ كثيرة ومتنوّعة. أما السبب الثاني فهو يتعلّق بحقيقة أنّ هذه الوثيقة تعكس بشكلٍ ما ميزان القوى بين الحكومة والشركات التي ستطوّر الموارد. ففي زمن احتكار الشركات الغربيّة الكبرى لإنتاج النفط في بدايات القرن العشرين، أي حين كانت العلاقة بين الدول والشركات مُختلّة للغاية لصالح الأخيرة، وتحديدا في البلدان النامية، فإنّ اتفاقيّات الامتياز كانت تُعطي للشركات امتيازاتٍ هائلة هي أقرب للحقوق السياديّة بينما تمنح للحكومات الفُتات (وعلى سبيل المثال، بلغت مساحة الامتياز الذي حصلت عليه الشركة الإنجلوفارسية في إيران لصاحبها وليام إي دارسي عام 1901 حوالى 1.2 مليون كم مربّع، أي ثلاثة أرباع مساحة إيران في الوقت الحالي). وفي أعقاب أزمة تأميم النفط وإسقاط حكومة الدكتور محمّد مُصدّق، بدأت العقود التي تنظم العلاقة بين الطرفين تتحسّن لصالح الحكومات الوطنيّة مع الشروع بتطبيق مبدأ 50:50 لتقسيم الأرباح. ثم جاءت موجة التأميمات في الستينيّات والسبعينيّات من القرن الماضي لتنقل العلاقة بين الحكومات والشركات إلى شكلٍ جديد. وقد اُستحدثت في ذلك الزمن اتفاقيات مشاركة الإنتاج (Production Sharing Agreement) الذي جرى أوّل تطبيق عمليّ لها في أندونيسيا، وهي ضربٌ من العقود يجعل الشركات المطوّرة تتحمل قدرا أكبر من المخاطرة مقابل استرداد ما أنفقته في حال نجاحها في تطوير الموارد وإنتاجها لاحقا، ويعدّ هذا النوع من العقود الأكثر انتشارا في مجال استخراج الغاز في البلدان النامية اليوم. وللتلخيص، فإنّ وثيقة "النظام المالي" هي بمثابة "بارومتر" يعكس مدى تساهل/صعوبة شروط الحكومة في تنظيمها لعمل شركات النفط والغاز وللعوائد التي ستحصل عليها من جرّاء أنشطتها الاستخراجيّة.
  • في حدود معرفتي، فإنّ السلطة الفلسطينيّة لا تمتلك نظاما ماليّا يُنظّم أنشطة شركات النفط والغاز وآليّات احتساب العوائد كالذي أشرنا إليه أعلاه لأسبابٍ لا تخفى على أحد. ومن هنا، فإذا ما جرى تطوير الحقل من خلال البوابة المصريّة -وهو الأرجح كما ذكرنا في السابق- فإن عقود مشاركة الإنتاج المصريّة ستكون على الأغلب القاعدة القانونيّة الماليّة التي سيجري تطوير الحقل وتقاسم عوائده الماليّة على أساسها، خاصّة أن الصيغة المطروحة لاستغلال الحقل بين الأطراف المعنيين تمنح لـ "إيجاس" دور المطوّر الرئيسي وبحصّة في العوائد أيضا. وتمتلك مصر -كما العديد من البلدان المنتجة للنفط والغاز في العالم النامي- نسخها الخاصّة من اتفاقيّات مشاركة الإنتاج لتنظيم عمل الشركات الأجنبيّة والمحليّة العاملة في قطاع النفط والغاز لديها. والنظام الماليّ في مصر مرنٌ نسبيّا، حيث أنّ شروط عقود المشاركة يُمكن أن تختلف تبعا لمنطقة الامتياز الممنوحة أو طبيعة الشركات التي ستطوّر الحقل ولاعتبارات أخرى، ويجب على البرلمان أن يُصادق على كلّ اتفاقيّة توقعها الحكومة مع الشركات في هذا الصدد لتصبح سارية المفعول. وبدون الدخول في التفاصيل القانونيّة والتقنيّة المتشعبة والكثيرة، فإنّ تقاسم العوائد بين الحكومة والشركات في ظلّ العقود المصريّة يجري على الأساس التالي:

- حصّة الحكومة Royalty: من حق الحكومة الحصول على نسبة 10% من الإنتاج على هيئة ملموسة، أي كمادة خام أكانت نفطا أم غازا طبيعيّا، أو على هيئة كاش يمثّل القيمة المالية لهذه الحصّة.

- استرداد التكاليف: يُمنح المطوّر الرئيسيّ للحقل الحق في تغطية كافة التكاليف الاستثماريّة والتشغيليّة للحقل من خلال اقتطاع ما نسبته 35-40% من الإنتاج الإجماليّ للحقل. ويستطيع المطوّر التصرّف بهذه الكميّة بحريّة مع مراعاة حقوق الشراء التفضيليّة الممنوحة للشركة القابضة المصريّة للغاز "إيجاس" لتغذية السوق المحلّي.

- تقاسم الإنتاج: بعد اقتطاع حصّة الحكومة واسترداد التكاليف، فإن ما يتبقى من الإنتاج يجري اقتسامه بين "إيجاس" والشركاء في  الحقل حسب النسب المتفق عليها في العقد، ويستطيع المطوّر أو الشركاء التصرّف بحصتهم مع مراعاة حقوق الشراء التفضيليّة الممنوحة للشركة القابضة المصريّة للغاز "إيجاس" لتغذية السوق المحلّي.

- الضرائب: يترتب على الشركات العاملة في أنشطة الاستكشاف والتنقيب عن النفط والغاز في مصر دفع ضريبة مقدارها 40.55% على أرباحها. وفي الكثير من العقود المصريّة، فإنّ "إيجاس" تقوم بدفع قيمة الضريبة من حصتها من الإنتاج بالنيابة عن المطوّر الرئيسيّ (لنتذكر هنا أنه في حالة غزّة "مارين" فإنّ "إيجاس" هي المطوّر الرئيسيّ Contractor وأنها في نفس الوقت الشركة التي تنوب عن الحكومة بوصفها الشركة المسئولة عن أنشطة التنقيب وإنتاج ونقل الغاز في مصر).

  • إنّ تطوير الحقل تحت مظلّة شركة "إيجاس" المصريّة للغاز يعني أنّ هنالك احتمالية لتصدير الغاز المُنتج من "غزّة مارين" إلى الأسواق العالميّة وذلك بعد تسييله في محطّات الإسالة المصريّة في إدكو ودمياط على ساحل البحر الأبيض المتوسّط. ومن غير الواضح حتى الآن إذا كان جزءٌ من الغاز المُنتج سيوجّه إلى غزّة للمساعدة في علاج أزمة الكهرباء وذلك من خلال عبر أنبوب أرضي أم لا. إذ ربما تنشأ صيغة تقضي مثلا باستخدام جزءٍ من عوائد مبيعات الغاز لشراء الكهرباء من مصر أو إسرائيل، أو حتى شراء الغاز من الحقول الإسرائيليّة كـ "ليفياثان" و"تامار" وتحويله إلى غزّة من خلال أنبوب مرتبط بالشبكة الإسرائيليّة. وفي واقع الأمر، فقد سبق لشركة غزّة لتوليد الكهرباء أن وقعت مذكرة تفاهم مع السفير القطريّ في غزّة، محمّد العمادي، في كانون أول/ديسمبر 2021، تموّل اللجنة القطريّة لإعادة إعمار غزّة بموجبه إنشاء خط أنابيب من الحقول الإسرائيليّة إلى محطّة كهرباء غزّة بقيمة 60 مليون دولار. وتُشير الخرائط التي أعدتها شركة أنابيب الغاز الإسرائيليّة إلى أن هنالك مسارا قد جرت الموافقة عليه فعلا لنقل الغاز من الشبكة الإسرائيليّة إلى محطة الكهرباء في غزّة من خلال أنبوب يدخل من شرق غزّة وصولا إلى المحطّة. وحتى تتضح الطريقة التي سيجري تطوير الحقل من خلالها والآلية التي سيستفيد قطاع غزّة عبرها من الحقل (أكان بالحصول على الغاز من الحقل عبر أنبوب قادم من مصر أو من خلال توجيه جزء من عوائده النقدية لشراء الغاز أو الكهرباء الإسرائيليّة أو الكهرباء المصريّة أو حتى توجيه هذه العائدات لمشروعات أخرى لا علاقة لها بالطاقة)، فإن هنالك حاجة ماسّة لعدم المبالغة في تقدير قيمة الغاز في الحقل أو العوائد الذي يمكن أن تأتي منه. فطبقا للحسابات التي أجريتها بالاعتماد على البروفايل الإنتاجي لـ "غزّة مارين" وأسعار الغاز في المنطقة، تبلغ القيمة السوقيّة الإجماليّة للحقل حوالى 4 مليارات دولار (وهذه القيمة ستكون أقل من ذلك لو أردنا الحصول على القيمة الحالية عند سعر خصم 10% مثلا). كما ستبلغ الحصّة التي سيحصل عليها صندوق الاستثمار الفلسطينيّ وشركة اتحاد المقاولين (وهما الشريكان الفلسطينيان في الحقل بحصّة إجمالية تبلغ 55%) حوالى مليار دولار خلال دورة حياة المشروع، بينما ستحصل الخزينة المصريّة على عوائد من الضرائب على المشروع تبلغ حوالى 2 مليار دولار، وعلى الأرجح ستحصل السلطة الفلسطينية على جزء من هذه الضرائب من مصر بعد إجراء مقاصة يتفق عليها الطرفان. وفي النهاية، فإن جميع هذه الأرقام قد تتغيّر في ضوء التغيرات المحتملة مستقبلا في حجم احتياطيات الحقل أو طرق تطويره أو الآلية التي ستُقسّم من خلالها عوائده، إذ أن الافتراضات التي استخدمتها هي افتراضات متحفظة للغاية على مستوى التكلفة والإنتاج بالنظر للتعقيد الكامنة في حالة "غزّة مارين" على كل المستويات.
(Visited 110 times, 1 visits today)