نُشر هذا المقال بتاريخ اليوم في موقع "حبر" الإلكتروني

استحوذت شركة «إنفيديا» الأمريكيّة المتخصصّة بتصميم الرقائق الإلكترونيّة قبل بضعة أشهر على اهتمام الصحافة الاقتصاديّة حول العالم بعد أن قفزت قيمتها السوقيّة إلى ما يزيد على تريليون دولار، وهو ما جعلها أول شركة تصميم رقائق تصل إلى هذا التقييم. وقد قفزت أسهم الشركة في أيّار الماضي بحوالى 24%، مُضيفة 183.8 مليار دولار إلى قيمتها السوقيّة خلال يومٍ واحدٍ فقط، وهو ما جعلها ثالث أكبر إضافة في القيمة السوقيّة تحدث في تاريخ الشركات الأمريكيّة على الإطلاق. الزيادة الكبيرة في سعر السهم كان مردّها إعلان «إنفيديا» ارتفاع الطلب على الرقائق التي تُصمّمها من قبل الشركات الطامحة لتطوير تطبيقات الذكاء الصناعيّ بالاعتماد على النماذج اللغويّة التوليديّة وغيرها من النماذج.

اسم «إنفيديا» قد لا يكون مألوفًا على المستوى العالميّ إذا وضع بجانب أسماء الشركات التكنولوجيّة الكبرى كـ«مايكروسوفت» و«آبل» و«أمازون»، بالنظر إلى أنّها لا تبيع سلعًا استهلاكيّة نتعامل معها يوميًا. رغم ذلك، فالشركة تقف فعليًّا وراء تصميم أهم الرقائق المُستخدمة في مجموعةٍ واسعة من السلع، من أجهزة الكمبيوتر والسيّارات والروبوتات. ومحبو ألعاب الفيديو بالذات مدينون لـ«إنفيديا» لأنّها وجّهت اهتمامها منذ تأسيسها مطلع التسعينيّات إلى المشكلات المُتعلّقة بتعامل الكمبيوتر مع الرسومات الجرافيكيّة المُعقدة وجعل التجربة الحاسوبيّة الجرافيكيّة أكثر جودة وإثارة. ومن هُنا فقد برعت الشركة بشكلٍ خاص في تصميم «وحدات معالجة الرسوميّات» المتطوّرة التي تُمثّل عقل «بطاقة الرسوميّات» أو «كرت الشاشة» كما يُطلق عليها في لغة العامّة غير المتخصصين. وقد تزايد الإدراك مؤخرًا لأهميّة وحدات المعالجة التي تُصمّمها الشركة في مجال الذكاء الصناعيّ بالنظر لقدراتها على إجراء عمليّات مُعالجة مُعقدة بشكلٍ مُتزامن، وهو الأمر الذي يرى المراقبون أنّه قد يُساعد «إنفيديا» على أن تكون من بين الأحصنة الرابحة في السباق التقنيّ الحاليّ.

في الأيام القليلة الماضية، أشار تقريرٌ صحفيّ من «فايننشال تايمز» إلى أنّ شركات الإنترنت الصينيّة الكبرى «تينسيت» و«علي بابا» و«بايدو» و«بايت دانس» (مالكة تطبيق «تيك توك») طلبت من «إنفيديا» ما قيمته خمسة مليارات دولار من وحدات المعالجة في الآونة الأخيرة. الوحدات التي طُلبت، بحسب التقرير، سيُسلّم منها جزءٌ هذا العام وجزء آخر في العام القادم، وستُستخدم بغالبيتها لبناء مراكز بيانات سحابيّة ضخمة تُمكّن هذه الشركات من استغلال الحجم الهائل للداتا التي تمتلكها من أجل تمرين تطبيقات ذكاء صناعيّ قائمة فعلًا، أو تطوير تطبيقاتٍ جديدة كليًّا على غرار تطبيق ChatGPT. التقرير ذكر أنّ هذا الطلب الكبير من عمالقة صناعة الإنترنت الصينيين يحمل طابعًا استباقيًّا في ضوء المخاوف من أن تفرض الولايات المتحدة المزيد من القيود على تصدير مُنتجات الرقائق للبلد الآسيوي. وقد أضاف أنّ الشركات الصينيّة لم تتمكّن، بسبب القيود التي فرضتها واشنطن العام الماضي، من شراء الجيل الأحدث A100 من المعالجات من «إنفيديّا»، وهو ما دفعها إلى طلب أعدادٍ كبيرة من معالجات A800 الأقدم لتخزينها لديها خشية من أيّام صعبة في المستقبل، مُشيرًا إلى أن أسعار هذه المعالجات ارتفع بمقدار 50% نتيجة لهذا الطلب المتزايد.

تُقدّم حالة «إنفيديا» نموذجًا للتحوّلات الأخيرة في سوق التكنولوجيا العالميّة، حيث يُهمين الذكاء الصناعيّ على الموجة الأخيرة من الثورات التقنيّة بسبب التطورات الكبيرة التي حدثت في طاقة المعالجة الحاسوبيّة في العقود الثلاثة الماضية. حين كنا في عصر الحواسيب الكبيرة بنهاية الثمانينيّات، فإنّ شركة IBM كانت هي النجم الساطع في عالم الرقائق، لكن عندما انتقلنا إلى عصر الحواسيب الشخصيّة في مطلع التسعينيّات، فإنّ النقاط المُشعّة في الصناعة بدأت بالانتقال إلى آسيا، من خلال شركاتٍ مثل «TSMC» التايوانيّة و«سامسونغ» و«إل جي» و«وهيونداي» الكوريّة. وها نحن الآن، مع هذه الموجة من صعود التقنيات والخدمات المستندة للذكاء الصناعيّ والبيانات الضخمة، نشهد حضور لاعبين آخرين إلى واجهة المشهد كشركة «إنفيديا». لكنّ هذا الصعود لا يُعدّ بحدّ ذاته حصانة لهذا النوع من الشركات لمواصلة النمو في المستقبل القريب. فصناعة الرقائق الإلكترونيّة، بسبب تنوّع المنتجات النهائية لها واتساع أسواق هذه المنتجات على المستوى العالميّ، تتميّز بأنها صناعةٌ شديدة التأثر بالدورات الاقتصاديّة الكليّة المتأرجحة بين الرواج والركود. وتقدّم لنا أزمة «نمور آسيا» الاقتصاديّة في نهاية التسعينيّات نموذجًا حيًّا على هذا الأمر، حيث إن انخفاض أسعار الرقائق الإلكترونيّة، بسبب الإنتاج الفائض منها وضعف الطلب على الأجهزة الإلكترونيّة، كان واحدًا من مسبّبات الأزمة.

لعبت السياسة دورًا رئيسيًّا في تشكيل وإعادة تشكيل صناعة الرقائق الإلكترونيّة خلال العقود الأخيرة. وفي واقع الأمر، فإنّ صناعة الرقائق كانت من أكبر المستفيدين من حقبة الحرب الباردة، حيث كانت الولايات المتحدة في سعيها لحجز مقعد الصدارة في سباق التنافس العسكريّ والعلميّ مع الاتحاد السوفييتي، تضخّ تمويلاتٍ كبيرة للمجتمع التقنيّ الأمريكيّ من أجل تصميم أحدث التكنولوجيات في مختلف المجالات. في ذلك الوقت، كانت المؤسسة العسكريّة الأمريكيّة هي المُستهلك الأكبر للرقائق الإلكترونيّة على مستوى العالم، وكانت جهود شركة كـIBM مسخّرة من أجل إشباع هذا النهم. لكن بعد أن زال خطر الاتحاد السوفييتي تمامًا في أعقاب انهيار جدار برلين، وجدت صناعة الرقائق الإلكترونيّة الأمريكيّة نفسها أمام وضعٍ جديد اضطرت معه لتوجيه منتجاتها نحو المستهلكين العاديين، وهكذا بدأت مُنتجاتٌ كالكمبيوتر الشخصيّ والأجهزة المحمولة والهواتف الذكيّة بالظهور رويدًا رويدًا لتنتشر في أرجاء عالمنا كلّه، بعد أن كانت التقنيّات التي تقوم عليها هذه المنتجات مُحتجزة داخل أسوار المجمّع العسكريّ الأمريكيّ لعقود.

واليوم، تعود صناعة الرقائق لتكون في قلب التنافس العسكريّ والعلميّ بين الولايات المتحدة والصين. فبسبب شوط التطوّر الطويل الذي قطعته، وبسبب التعقيد والتخصص الكبيرين اللذين وصلت إليهما، فقد باتت هذه الصناعة فعليًّا القاعدة الماديّة الحيويّة لعالمنا الحديث بكلّ منتجاته التكنولوجيّة من أجهزة المحمول إلى سفن الفضاء وصولًا إلى الصواريخ الجوّالة العابرة للقارات. ربما ما يختلف هذه المرّة، هو أنّه على العكس من زمن الحرب الباردة، حين كان الصراع بين القوتين العُظميين يستندُ إلى صناعاتٍ وطنيّة محليّة وإلى اقتصاداتٍ مُغلقة نسبيًّا، فإنّ التنافس بين الولايات المتحدة والصين يجري في هذه اللحظة في بيئة الرأسماليّة الفائقة، حيث الكل شريكٌ للكل في سلاسل الإنتاج على مستوى الكوكب كلّه، وفي كلّ الصناعات التي يُمكن أن تخطر على ذهن المرء.

ورغم أنّ الإدارة الأمريكيّة قد بدأت في السنتين الأخيرتين بتبني نهجٍ جديد من أجل تطويق الصين على المستوى التكنولوجيّ، إمّا من خلال وضع المزيد من القيود المُباشرة على نقل وتصدير التكنولوجيا الأمريكيّة المتطوّرة إليها، أو عبر محاولة إعادة توطين صناعات التقنيّة المُتقدمة في الولايات المتحدة مُجدّدًا، وعلى رأسها صناعة الرقائق الإلكترونيّة، فإنّه سيكون من المثير مراقبة الكيفية التي ستشكّل فيها هذه السياسات الحكوميّة، المدفوعة بالاعتبارات الجيوبوليتيكيّة والأمنيّة بشكلٍ كبير، العالم التكنولوجيّ مرّة أخرى، وعمّا إذا كان البلدان سيتمكنان فعلًا من تفكيك الشبكات الكثيفة والمتداخلة من العلاقات الاقتصاديّة التي تربطهما معًا في رباطٍ وثيق، وهو الرباط الذي شكّل فعليًا روح ومعنى العولمة في نسختها الأخيرة التي بدأت في التسعينيّات. وحالة «إنفيديا» ربما تُقدّم إثباتًا على هذا الأمر، فكما أنّ الشركات الأمريكيّة بحاجة لشريكها الصينيّ من أجل أن تنمو وتتوسّع وتطوّر رقائقها إلى مستوياتٍ أعلى في السلم التكنولوجيّ، فإنّ الشركات الصينيّة هي الأخرى بحاجة لشريكها الأمريكيّ حتى تواكب ثورة الذكاء الصناعيّ وتزيد مبيعاتها في السوق الصينيّ الذي يقترب من أن يكون السوق الاستهلاكيّ الأكبر في العالم.

 

(Visited 79 times, 1 visits today)