• من الواضح أنّ حركة "حماس"، وبفعل تنامي الأعباء الهائلة لإدارة الحياة اليوميّة لمليونيّ إنسان في قطاع غزّة، قد بدأت في السنوات الأخيرة بما يُشبه عمليّة تفويض Delegation لبعض السُلطات للوحدات المحليّة الأصغر مُمثلة في البلديّات. وقد كشفت الحادثة الأخيرة في خان يونس أنّ البلديّات باتت تحظى بمؤازرة أقوى وأكثر فاعليّة من قِبل السلطة التنفيذيّة لممارسة مهامها في النطاق المحلّي المسئولة عنه. كما كشفت الحادثة أيضا أن سلطات البلديّات باتت أقوى وأشمل، إلى الحدّ الذي بات يدفعها لضمّ مناطق جديدة لولايتها، أو التدخل بشكلٍ أكبر في الشئون المحليّة لمخيّمات اللاجئين والتي كانت لوقتٍ طويل مناطق مُتفلتة نسبيّا من يد الحكومة في مسائل التنظيم والجباية وغيرها.
  • تحقّق عمليّة التفويض هذه عدّة مزايا: 1- تخفيف الأعباء عن كاهل الهياكل المركزيّة للحكومة وذلك عبر نقل هذه الأعباء لهياكل ذات طابع أهلي 2- امتصاص هبّات الغضب والاعتراض وحصرها في إطارها المحلّي بدل توجهها للسلطة الحاكمة (استقالة المجلس البلدي في خانيونس كمثال) 3- بسط سيطرة الحكومة إلى هوامش الهوامش على المستوى الجغرافي والاجتماعيّ وبالتالي توسيع قاعدة الجباية وزيادة فاعليّتها وإيصالها لفئات جديدة (وفي الحقيقة، فإنّ "حماس" في غزّة لم تقدم نموذجا ناصعا في النجاح أكبر من ذلك الذي قدمته في ملفّ الجباية، ولا أعرف لماذا يمتنع صندوق النقد الدولي حتى الآن عن الاستفادة من تجربتها في هذا المجال) 4- استمرار تدفق التمويل الدولي، حيث أنّ جزءا كبيرا من مشروعات البنية التحتية الممولة غربيا تجري في أغلب الأحيان بالشراكة المباشرة مع البلديّات وبعض الهيئات المحليّة الأخرى، بالنظر للمحاذير السياسيّة المُتضمنة في التعامل المباشر مع الحكومة الحمساويّة من قِبل الممولين الأجانب.
  • من الملاحظ أنّ عمليّة نقل الأعباء هذه لم تجرِ من خلال البلديّات فحسب، بل وأيضا من خلال قوّة محليّة أخرى وهي العشائر. فمن يتتبّع السياسة المحليّة لـ "حماس" في القطاع خلال السنوات القليلة الماضية يستطيع أن يرى كيف عملت الحركة لتمتين أواصر تحالفها مع القوى التقليديّة في المجتمع وذلك من خلال إعادة إنتاج مؤسسة عشائريّة واسعة وذلك باستمالة أكبر عددٍ ممكن من المخاتير والوجهاء ورؤساء العشائر والمُصلحين الدينيين. وقد اعتمدت "حماس" تاريخيّا، أي قبل أن تُصبح في موقع السلطة المباشرة، على العلاقة الوثيقة بالعشائر من خلال شبكتها الواسعة المعروفة بلجان الإصلاح، وذلك من أجل مدّ نفوذها إلى مختلف الأوساط الاجتماعيّة واكتساب نوعٍ من الهيمنة المعنويّة عليهم. والآن، وهي في موقع السلطة، فإنّها لن تجد أفضل من هذه القوى التقليديّة لتكون حائط الصدّ الاجتماعي في وجه القلاقل أو الانتقادات، والأداة الأبرز لصياغة الصفقات والمساومات حول المشكلات الاجتماعيّة اليوميّة أو المشكلات الناجمة عن الممارسات الحكوميّة بمنطق المخاتير المعروف.
  • من الخطأ الفادح أن يتركّز الجدل العام على مناقشة وإدانة الممارسات الحكوميّة، كالتي رأينا مثالا صارخا لها في حادث خان يونس، من زاوية أنها "خطأ إداري" وأنّها، بالتالي، بحاجة لعلاجٍ سلوكيّ "تهذيبي" للموظفين الصغار الذين يتعاملون عن قرب مع الجمهور بشكلٍ يوميّ. الموضوع من بابه لمحرابه موضوعٌ سياسيّ، وهو يدور حول سؤال مُحدّد: هل النموذج السياسيّ والاقتصاديّ الذي بنته "حماس" منذ العام ألفين وسبعة مناسبٌ لإدارة منطقة تحت الاحتلال والحصار وفي سياق التحرّر الوطني؟ إن المتابع لمسيرة تطوّر سلطة "حماس" في غزّة يستطيع أن يرى بوضوح أنها اختارت أن تتصرّف كحكومة في بلدٍ مستقل تماما، بل وكحكومة ذات طابع نيوليبرالي أيضا، حيث جرى التركيز على بناء مؤسسات بيروقراطيّة حديثة شغلها الشاغل تحسين معدّلات الجباية وتوسيع قاعدتها واستجلاب كل ما أمكن استجلابه من تمويلات خارجية وتوفير كلّ التسهيلات لأرباب البزنس الحمساويّ وغيرهم، بدون أن تعير بالا لحقيقة أنّ سياستها هذه إنّما تُفاقم من الفوارق الاجتماعيّة وتعزز سياسة الإفقار للجمهور الأوسع من الناس وتجعلهم كافرين بكلّ شيء. وفي السنتين الأخيرتين بشكلٍ خاص، أصبحت الاختلالات في هذا النموذج فادحة إلى الحد الذي بات من الصعب تغطيتها أو تجاهلها، فبينما كانت الشاليهات الفارهة تتكاثر كالفطر وبينما كانت الحكومة تجتهد في الحفاظ على الواجهة الحضاريّة للمدينة، كانت ظواهر التسوّل الاجتماعي تزداد ومعها أعداد الشبّان الغاضبين الذين يرغبون بالهروب من هذا الجحيم حتى لو انتهى بهم الأمر لأن يُلقوا بأنفسهم في اليم.
(Visited 79 times, 1 visits today)