مصر تعيش أزمة كهرباء. الملايين من المصريين يعانون في هذه اللحظة من انقطاع التيار الكهربائيّ لساعاتٍ طويلة. القاهرة انضمّت مُجدّدا إلى أخواتها: غزّة وبيروت ودمشق وبغداد. انقطاع الكهرباء بات العنوان الأبرز لأزمة المدن العربيّة في المشرق خلال العقد الأخير والعلامة المميّزة لتراجع مكانتها كمدنٍ قابلة للعيش والازدهار. انقطاع الكهرباء قاتلٌ خفيّ بكلّ ما تحمله الكلمى من معنى، ليس للمرضى الذين تعتمد حياتهم على الأجهزة الطبيّة فحسب، بل للمجتمع ذاته، لمزارعه ومصانعه وورشه الصغيرة ومدارسه ونواديه، لقوّته الكامنة وإيقاع حياته ومزاجه وخياله وقدرته على التفكير خارج صندوق العتمة.
تتكثّف في ملهاة الكهرباء المشرقيّة أزمات المنطقة جميعها: أزمة الحرب الدائمة مع القوى الأجنبيّة، أزمة السيادة الوطنيّة على موارد الطاقة، أزمة النموذج التنموي والسياسات، وأزمة التعاقد الاجتماعيّ. في غزّة، على سبيل المثال لا الحصر، تغيب الكهرباء لأنّ إسرائيل تريد ذلك ببساطة عبر آلة التدمير والمنع، وفي القاهرة لأنّ معدّلات إنتاج الغاز الطبيعيّ تعجز، بسبب نقص الاستثمارات، عن مواكبة الزيادة السكانيّة ونموّ معدلات الطلب على الكهرباء، وفي بيروت لأنّ البلد منهوبٌ وخاضع للإملاءات الخارجيّة، وفي دمشق لأنّ الحرب والعقوبات حطّمت كل شيء وحرمت البلاد من استغلال مواردها.
أما في بغداد فالحالة مأساة متكاملة الأركان. ويكفي أن أذكر للقرّاء الكرام أن العراق يُبدّد يوميا ما مقداره مليار ونصف قدم مكعبة من الغاز الطبيعي، وهي كميّة قادرة على إضاءة ثلاثة ملايين منزل، وذلك بسبب نقص المرافق المختصّة بفصل الغاز المُصاحب لإنتاج الخام الأسود وإعادة استخدامه بدلا من إحراقه كما يحدث الآن على نطاقٍ واسع هناك. ولكم أن تعرفوا أيضا أنّ العراق، هذا البلد الذي يطفو على بحيرة هائلة من النفط والغاز، مديونٌ بمليارات الدولارات لإيران مقابل شحنات الغاز التي يستوردها منها لتشغيل محطّاته الكهربائيّة!
وباختصار، فأزمة الكهرباء في المنطقة هي نتيجة لفواتير تاريخيّة متراكمة غير مدفوعة، وهي أكبر بكثير وأكثر فداحة ممّا يُمكن للمرء تخيّله. قد تبدو الفاتورة العراقيّة الأضخم والأكثر تطرّقا لأن العراق هو ربما البلد الوحيد في الهلال الخصيب الذي تجلّت فيه خلال العقود الثلاثة الماضية كلّ الأزمات المذكورة أعلاه بأكثر أشكالها ضراوة وتدميرا وفتكا.
وملهاة الكهرباء في منطقتنا لها رائحة السولار والمازوت. ففي غزّة وبيروت ودمشق وبغداد لا صوت يعلو فوق صوت المولدات الكهربيّة. حيث خلقت الأزمة عبر السنين شبكاتٍ على مستوى الأحياء لتقديم خدمات الكهرباء، وهذه المساحة غير الرسميّة تبلورت مع الوقت في صورة سبيكة من المصالح التي تجمع رجال السلطة وفاسديها ولصوصها ومن ورائهم مافيات الوقود. وأصبحت لهذه المجموعة القدرة على أن تسوم الناس العذاب بتحكمها بالأسعار وتحميل المجتمعات الكسيحة أصلا، المزيد من الأعباء الماديّة الثقيلة في ظلّ انسحاب مؤسسات الدولة من المشهد تماما. وهنا تتجلى أزمة التعاقد الاجتماعي، حيث أنّ هذه المجتمعات بعد كل الكوارث السياسيّة والاقتصادية التي ضربتها لا تزال عاجزة عن إنتاج صيغ للتفاهم بشأن العيش المشترك وتصميم السياسات وإيجاد طريقة لإدارة الموارد على نحو لا يسمح لطغمة محتكرة بأن تستغلّ حالة الخراب المُعمّم لكي تثرى وتسمن على حساب المجموع الأكبر من الناس المقهورين وأحلامهم وآمالهم.
يقول لي صديقي العدمي: أحبّ أن تندلع في هذا المكان يوما ما حربٌ كبرى لا تبقى ولا تذر لأنها الشيء الوحيد القادر على تعزيتي في حقيقة جارحة وهي أنّ مدن المشرق التي عرفت الحضارة قبل آلاف السنين تغرق في الظلام، بينما تنعم مستوطنة تل أبيب بالنور على مدار الساعة.