أنتجتُ الخرائط الأربع التي ستردُ في هذا الموضوع كمادة بصريّة توضيحيّة للتحليل الذي نشرته مُؤخّرا في موقع "حبر" الإلكترونيّ حول ترتيبات إنشاء نظامٍ إقليميّ للطاقة في بلاد الشام. هذه الخرائط جزءٌ من سلسلة خرائط أنوي إنتاجها لتغطية كلّ أنابيب نقل الطاقة (نفط وغاز) القائمة والمحتملة في المنطقة العربيّة، وذلك لتكون عونا للدارسين والبحّاثة والصحافيين والمُهتمّين بالشئون العامّة في بلادنا في تكوين صورة أفضل عن البنى التحتيّة لإنتاج ونقل النفط والغاز بكلّ ما ينطوي عليه هذا الموضوع من أهميّة من الناحية السياسيّة والاقتصاديّة.

تحظى الخريطة في المُخيّلة العربيّة بسمعة بالغة السوء، وهي تُحيل ذهنيّا، وعلى الفور، إلى كلّ من مارك سايكس وفرانسوا جورج بيكو. ويُنظر إلى التاريخ العربيّ في آخر مائة سنة ونيّف، بكلّ الزلازل السياسيّة التي ضربته وبكلّ المآسي والمشكلات التي اكتنفته خلال هذه الفترة الطويلة، على أنّه نتاجٌ للخرائط التي قام الرجلان بوضع خطوطهما عليها في غمرة الحرب العالميّة الأولى. لهذا السبب، كان النضال العربيّ التحرريّ على الدوام نضالا ضدّ الخرائط الاستعماريّة وسطوتها والقوى الكامنة وراء تثبيتها، وكانت التطلّعات القوميّة الكبيرة مُرتبطة دائما بتلك الرغبة الدفينة بالمحو، أي محو خطوط سايكس بيكو (1).

ولئن كان مشروع التحرّر العربيّ هذا قد ارتدّ على عقبيه بسبب عوامل تاريخيّة وبنيويّة متنوّعة. ولئن كان من النتائج البارزة لهذا الارتداد صعودٌ أكبر لمفهوم الدولة القطريّة الضيّقة وتقديس حدودها المرسومة من قِبل الاستعمار، ناهيك عن التشديد المُبالغ فيه على سيادة وطنيّة جوفاء في الكثير من الأحيان، فإنّ التفكير اليوم بمشروعاتٍ سياسيّة كبرى تتجاوز هذه الحدود وتُعيد لمّ شتات العرب أو جزءا منهم على الأقل في إطار مشروعٍ تحرري يُناهض الصهيونيّة ويعمل من أجل بناء القاعدة الماديّة لاقتصادٍ يكفل الحياة الكريمة العزيزة للشعوب الواقعة في نطاقه، يتطلّب بالضرورة إعادة رسم وامتلاك خرائطنا الخاصّة عن الحيّز الجغرافيّ الذي نعيش فيه، واعتماد الخريطة بذاتها كأداةٍ من أدوات التفكير النقديّ في الواقع وفهمه وإعادة تفكيكه وتركيبه وتخيّله في أبعادٍ أخرى جديدة.

***

المقام هُنا مناسبٌ للتشديد على نقطتين اثنتين مُتّصلتين بالموضوع بشكلٍ وثيق. الأولى أنّ اهتمامي كان مُنصبّا دائما على المسائل المُتعلّقة بالاقتصاد السياسيّ والتاريخ الاجتماعيّ، وأنّ موضوعات الجغرافيا السياسيّة والعلاقات الدوليّة لم تكن تستهويني. وقد يكون النفور من هذه المَباحِث نابعا بالأساس من ضربٍ من "الموضة" التي شاعتْ خلال العقد الأخير في النظر إلى صراعات المنطقة وتحوّلاتها، وصعود ظاهرة "الخبراء الاستراتيجيين" التي تربط كلّ تغيّر سياسيّ في بلادنا بمخططٍ كبيرٍ ومُفصّل أُخرج من أدراج خزائن القوى الكبرى، وترى أنّ كل التفاعلات المحليّة وسياقاتها واللاعبين المُشاركين فيها بلا أهميّة في مواجهة الإرادات الكليّة والجغرافيا المُتعالية على مخاضات الواقع. بالرغم من ذلك، فإنّ القراءات التي قام بها المرء عن السنوات العشرين الأولى من القرن العشرين، والتي تبلورت خلالها الحقائق الماديّة التي تعيش المنطقة في كنفها اليوم، والتشقّقات التي بدأ برؤيتها في النظام الدوليّ الذي تأسّس في أعقاب الحرب العالميّة الثانية، دفعانه في النهاية إلى مراجعة الموقف السلبي من الجغرافيا السياسيّة كمنظارٍ للتحليل. فالصراعات التي اندلعتْ في العقدين الماضيين حول العالم تجري في غالبيّتها على ذات خطوط الصدع التي حكمتْ التنافس والقتال بين الإمبراطوريّات الكبرى خلال القرن التاسع عشر، مع فارق أنّ مصالح الإمبراطوريّات القديمة تُعبّر عن نفسها اليوم من خلال مصالح الدول القوميّة التي ورثتها. من هنا تتبدّى الحاجة إلى إطارٍ تحليليّ مرن ومتوازن يستطيع الجمع بين فهم التغيّرات السياسيّة في ضوء تفاعل عناصر السياقات المحليّة واقتصادها السياسيّ من جهة، وإدراك الخلفيّة الجيوبوليتيكيّة التي تجري هذه التغيّرات في إطارها من جهة أخرى.

النقطة الثانية التي أودّ التشديد عليها هي أنّ دراسة وتحليل مشروعات نقل الطاقة لا علاقة له لا من قريبٍ ولا من بعيد، بالنسبة لي، في المساهمة في الإعلاء من شأن ما بات يُعرف الآن بـ "نظريّة الإنبوب" التي ترى أنّ المحرّك الرئيسيّ للصراعات الدوليّة والإقليميّة يكمن في سعي الأطراف المُتصارعة للسيطرة على خطوط أنابيب الطاقة ومسارات مرورها أو إعاقتها. وقد برز في أعقاب اندلاع الحرب الأهليّة السوريّة عددٌ كبيرٌ من التحليلات التي حاولت عزو الانتفاضة الشعبيّة ضدّ النظام وما تلاها من احترابٍ مُسلّح إلى النزاع بين القوى الإقليميّة على خطوط أنابيب الغاز التي كان يُفترض أن تمرّ -بحسب السيناريوهات التي طُرحت في تلك التحليلات- في الأراضي السوريّة قبل أن تتجه إلى أوروبا. وكان هناك تركيزٌ خاص على مشروعٍ قطريّ لنقل الغاز من الإمارة الخليجيّة إلى أوروبا عبر سوريا، إذ أشاعت التحليلات فكرة مفادها أن رفض سوريا لهذا المشروع كان من الأسباب المباشرة للانتفاضة الشعبيّة. وفي واقع الأمر، لا يستطيع المرء أن يجد دليلا ملموسا وموثوقا على وجود مشروعٍ كهذا، وحتى لو افترضنا وجوده فعلا، فإنّ العوائق التي كانت ستقف في طريقه ما كانت لترتبط بسوريا أو نظامها بدرجة أولى. فقد كانت السعوديّة هي الدولة التي ستقف غالبا في وجه هذا المشروع مانعة جارتها الصغيرة من مدّ نفوذها السياسيّ -عبر أنابيب الطاقة- في المنطقة، ناهيك عن أن قطر ما كانت لتُغامر بمدّ إنبوب غاز في الأراضي السعودية خشية أن يُستخدم كأداة لمعاقبتها عن كلّ أزمة سياسيّة بين البلدين. وعلى المستوى التقني، فقد اختارت قطر منذ أواسط التسعينيّات أن تُصدّر الغاز باستخدام الناقلات البحريّة بعد تسييله (2)، وكانت دوافعها لاختيار هذه الطريقة لنقل الغاز إلى الأسواق العالميّة، من بين دوافع أخرى، تجنّب المسارات التي تنطوي على تعقيداتٍ أمنيّة وسياسيّة كالمسارات الآنفة الذكر. وبإمكان المرء أن يُعدّد المزيد من الأسباب لتفنيد أساس فكرة الأنبوب القطري، لكن الأمر خارج نطاق موضوعنا هُنا.

***

الخريطة أدناه هي خريطة لـ "خطّ الغاز العربيّ". أنتجتُ هذه الخريطة بالاعتماد على خريطة أصدرتها قبل سنوات، وكالة الاستخبارات المركزيّة الأمريكيّة (CIA) لمرافق صناعة النفط والغاز وخطوط الأنابيب في منطقة الشرق الأوسط (سأكتبُ عنها حين تتاح الفُرصة لذلك). وقد حاولتُ تحري الدقّة المكانية قدر المستطاع في رسم مسار الخط، لكنّ المشكلة الرئيسيّة التي واجهتني تمثّلت في أنني لم أكن أعرف المسقط الجغرافيّ الذي استخدمته الوكالة لرسم خريطتها، ولذلك لجأتُ لاستخدام المسقط الجغرافيّ المعروف باسم (WGS84)، ومن هُنا، فقد يكون هنالك هامش خطأ محدود بين مسار الخط في الواقع ومساره على الخريطة. بخصوص الأنبوب بين مدينة عسقلان المحتلّة ومدينة العريش، فقد رُسم بالكامل على أساس تقديري. أما الخط الواصل بين منطقة العفّولة ومحطّة الخناصري (الوصلة الأردنيّة) فقد رسمته بعد بحثٍ في المصادر المفتوحة عن القرى الأردنيّة التي مرّ بها الخط، وغالبيتها تقع في منطقة الأغوار الشماليّة وإربد. كما استفدتُ بشكلٍ خاص من المعلومة التي تحصّلت عليها أثناء بحثي، وهي أنّ الخط يمرّ، وهو يخترق الأراضي الأردنيّة وصولا للخناصري، في طريق يُدعى محليّا بـ "طريق البترول" بالنظر إلى أنّ خط "التابلاين" كان يمرّ به منذ عقد الخمسينيات، وهو ما سهّل علي رسم الوصلة في مسارها الصحيح على أرض الواقع في أكثر من منطقة. وبكل الأحوال، فقد تخلّيت عن فكرة وضع مقياس للرسم لإدراكي لهوامش الخطأ المكانية التي نجمت عن اشتقاق خريطتي من خريطة أخرى بدون معرفة المسقط الجغرافيّ للأخيرة.

1

أما الخريطة أدناه فهي لـ "خطّ الربط الكهربائيّ العربيّ". وقد رُسم الكابل الناقل للكهرباء على أساسٍ تقديريّ مع مقدار كبيرٍ من الصحّة بالاعتماد على خرائط نشرتها وزارة الكهرباء السوريّة وشركة الكهرباء الوطنيّة الأردنيّة. وبالنسبة لمحطّات الكهرباء، فإنّها تعكس المواقع الحقيقيّة على أرض الواقع حيث نقلتُ إحداثيّاتها الجغرافيّة من تطبيق Google Earth Pro إلى خريطتي، وهي لا تضمّ كل المحطات الكهربائيّة الموجودة في القُطرين الأردني والسوريّ بطبيعة الحال وإنما عددا من المحطات الرئيسيّة المتصلة بخط الربط الكهربائي.

2

أمّا الخريطة أدناه فهي لجانبٍ من البنى التحتيّة لصناعة الغاز في منطقة شرق المتوسّط، تضم خطوط الأنابيب القائمة والمحتملة وحقول الغاز بالإضافة إلى محطّات الإسالة الواقعة في إدكو ودمياط على الساحل المصريّ. وقد اعتمدتُ في رسم شبكة نقل الغاز المصريّة ومحطّات الإسالة على خريطة وكالة الاستخبارات المركزيّة آنفة الذكر. أمّا شبكة النقل الإسرائيليّة، فقد اعتمدتُ في رسمها على خريطة بالعبريّة نشرتها الشركة الإسرائيليّة التي تلعب دور المُقاول في مدّ خطوط الأنابيب للشركات العاملة في حقول الغاز في دولة العدو. وكان تحديد موقع حقول الغاز الرئيسيّة في شرق البحر المتوسّط (ظُهر، تامار، ليفياثان وأفروديت) بشكلٍ دقيق أمرا صعبا إذ لا تميل شركات الطاقة والحكومات، وتحديدا في منطقتنا، للكشف عن إحداثيات حقول النفط والغاز. كما أنّ الحصول على هذه الإحداثيّات غير ممكن من خلال المصادر المفتوحة، ولذلك فقد اعتمدت على التقدير في تحديد مواقعها في ضوء بعض المعطيات الموجودة في خرائط مختلفة.

3

وهذه هي الخريطة الأخيرة والتي لم يتم تضمينها في التحليل الموسّع المنشور في "حبر"، وتتضمن قائمة بمحطّات توليد الكهرباء في لبنان مصنّفة بناء على نوع الوقود المُستخدم في التوليد. وقد حاولت فيها توظيف الخريطة لتوضيح مواقع المحطّات جغرافيّا وتصوير البيانات بغية توضيح طبيعة هذه المحطّات وقدرات التوليد الخاصّة بها. بنيت هذه الخريطة بالاعتماد على المعلومات المنشورة في موقع شركة كهرباء لبنان وغيره من المواقع.

4

ملاحظة: على المستوى البصريّ، واجهتُ صعوبة في اختيار خطوط عربيّة ملائمة للخرائط. شعرتُ أنّ الخط الذي اخترته لأسماء المدن والمسطّحات المائية (البحر الأبيض المتوسّط) كان مناسبا في النهاية، أمام الخط المستخدم لأسماء البلدان فلم يكن مُرضيا لي (شعرتُ أن اللغة الإنجليزيّة وطريقة رسم حروفها تمنح المرء مزايا بصريّة أفضل في هذا الجانب). فآمل من القرّاء الأعزاء ممن تتوافر لديهم الخبرة أو الذائقة في شأن الخطوط العربيّة المستخدمة في الخرائط والتصميمات الغرافيكيّة عموما أن يزودوني بآرائهم ونصائحهم في هذا الشأن.

(1) اُشتهر سايكس وبيكو في بلاد الشام بوصفهما الرجلين اللذين قسّما المنطقة ورسما حدود دويلاتها. أمّا في الخليج، فكان هنالك رجلٌ يفوقهما دهاءا وأهميّة وقد لعب أدوارا تفوق أدوارهما، وهو السير بيرسي كوكس، المقيم البريطانيّ الدائم في الخليج. في مؤتمر العقير الذي عُقد عام 1922 للنظر في النزاعات الحدوديّة بين نجد ومملكة العراق الناشئة حديثا، استلّ كوكس قلما أحمر ورسم خط الحدود بين المنطقتين، وقد أضاع بحركته البسيطة تلك ثُلثي مساحة الكويت!

(2) حين يقرر بلدٌ ما تصدير الغاز الطبيعي من حقوله إلى الأسواق الخارجية، فإن أمامه طريقان اثنان، الأول أن يصدّره بحالته الغازية إلى بلد الاستيراد عبر خطوط الأنابيب (Pipelines) التي تتخللها في الغالب محطات ضغطٍ لتسهيل تدفقه إلى وجهته الأخيرة. أما الطريق الثاني فيتمثل في تسييل الغاز (أي تحويله إلى صورة سائلة عبر تبريده إلى 162 درجة مئوية تحت الصفر) قبل شحنه عبر ناقلاتٍ بحرية متخصصة إلى محطته النهائية في البلد المستورد. النقطة الأساسية في عملية التسييل هي أنها تؤدّي إلى تقليص حجم الغاز المُسال إلى 1/600 من حجمه مقارنة بحالته الغازية ما يجعل نقله عبر البحار عملية مجدية بالمعنى التجاري، وتمثّل تكلفة نقل الغاز المسال حوالى 30-40% من سعره النهائي. تعتبر التكاليف الرأسمالية لإنشاء محطات لإسالة الغاز مرتفعة نسبيا وهو ما يضع قيودا على قدرات البلدان في تصدير موارد الغاز في كثير من الأحيان. يهيمن الغاز المنقول عبر الأنابيب على حوالى 70% من حجم تجارة الغاز العالمية، لكن أسواق الغاز المُسال شهدت خلال العقد الأخير طفرة كبيرة نظرا لتصاعد الطلب الآسيوي عليه كمصدرٍ رخيص ونظيف للطاقة ولدخول منتجين كبار إلى السوق مثل الولايات المتحدة وأستراليا.

(Visited 461 times, 1 visits today)