نُشر في موقع "حبر" الإلكتروني في 18 نيسان/أبريل 2020

في العام الفائت، بدا وكأنّ مُراهقي العالم قد وجدوا ضالتهم أخيرًا: عنوانٌ جديدٌ للتسلية والمرح اللحظيّ واكتشاف المواهب الشخصيّة الدفينة اسمه «TikTok». عدوى تحميل التطبيق الصينيّ الجديد غزت العالم لتصل إلى أعمق الأحياء الشعبيّة في نيودلهي والقاهرة ونيويورك. مع انتشار جائحة «كورونا» مطلع هذا العام، بما رافقها من حجرٍ منزليّ فُرض على أكثر من نصف سكّان الكوكب، أضحى الأمر أقرب إلى انفجارٍ هوسيّ لطاقة الملل البشريّة. المزيد والمزيد من الناس من مختلف الأعمار أقبلوا على التطبيق بحماسة. غدا «تيك توك» مُخدّرًا كونيًّا للهروب من تراجيديا انهيار العالم وسبيلا نموذجيّا لتزجية الوقت. تقول الأرقام أن «تيك توك» حظي بـ 113 مليون تحميل من متاجر «آبل» و«غوغل بلاي» خلال شهر شباط/فبراير الماضي، وأنّ مجموع تحميلاته بلغ 1.9 مليار تحميلًا منذ إطلاقه، ليصبح ثالث أكثر التطبيقات تنزيلًا بعد «فيسبوك ماسنجر» و«واتساب»، وبمشتركين يُقارب عددهم المليار شخص. وراء هذا النجاح المدوّي يقف شابٌ صينيّ اسمه جانغ يي مينغ.

يُشبه مسار صعود مينغ إلى حدّ بعيد، قصص رواد الأعمال الأمريكيين في وادي السليكون في سان فرانسيسكو. تخرّج الشاب الصينيّ البالغ من العمر 37 عامًا من إحدى الكليّات التقنيّة الصينيّة بشهادة في هندسة البرمجيّات. عمل بعد تخرجه في شركة «مايكروسوفت» الأمريكيّة لفترة وجيزةٍ قبل أن يبدأ مساره المهنيّ الخاص عبر الاستثمار في المشروعات الناشئة. كانت أولى مُغامرات مينغ الاستثماريّة المساعدة في إنشاء محرّك بحث خاصٍ بالعقارات في الصين تحت اسم «Kuxun». اجتذب مشروعه هذا اهتمام بعض الشركات العاملة في مجال السياحة والسفر حتّى استحوذت عليه شركة «TripAdvisor» السياحيّة المعروفة في العام 2009. كان ذلك النجاح البوّابة التي انطلق منها مينغ إلى العالم الرحب والنابض للمشروعات الناشئة حول العالم.

قصّة تطبيق «تيك توك» بدأت فعليًّا في العام 2011 من محطّات مترو الأنفاق في العاصمة الصينيّة بكّين. خلال ذلك العام، لاحظ مينغ أنّ أعداد الأشخاص الذي يتصفّحون الجرائد خلال تنقّلهم اليوميّ في عربات المترو تشهد انخفاضًا ملحوظًا، مقابل ارتفاعٍ مُضطردٍ في أعداد أولئك الذي يقضون وقتهم في تصفّح الأخبار من خلال الهواتف المحمولة. أدرك الشاب الصينيّ الذي كان يُتابع عن كثب النموّ الهائل في سوق الإنترنت والهواتف المحمولة في الصين، وتحديدًا مع صعود شركات مثل «هواوي» إلى المسرح التقنّي، أنّ الشاشة المُسطّحة للهاتف المحمول سرعان ما ستحلّ محلّ أوراق الجريدة التقليديّة. ورأى في هذا التحوّل فرصته الجديدة.

في العام اللاحق، أسّس مع مجموعة من زملاء الدراسة الجامعيّة شركة ناشئة باسم «ByteDance». وفي العام ذاته، أطلقت الشركة أول تطبيقاتها تحت اسم «Jinri Toutiao» (تعني بالصينيّة «مانشيتات اليوم») وكان عبارة عن منصّة تعتمد على خوارزميّات الذكاء الاصطناعيّ لتقديم وجبة خفيفة من الأخبار والمقالات ومقاطع الفيديو للمستخدمين بناء على تفضيلاتهم وتاريخ تصفّحهم. اجتذب التطبيق خلال سنواته الأولى بضعة ملايين من المُستخدمين في الصين وسرعان ما وصلت أصداؤه إلى المستثمرين العالميين، إلى حدٍ دفع صناديق «رأس المال الجريء» الأمريكيّة إلى الاستثمار فيه، وعلى رأسها صندوق «Sequoia» الذي كان له ماضٍ طويل في الاستثمار في شركات مثل «غوغل» و«يوتيوب» و«فايسبوك». في العام 2014، استثمر الصندوق 100 مليون دولار في شركة مينغ.

مُعتمدةً على نجاح تطبيقها الأوّل، وعلى التمويل الذي حظيت به من الصناديق الاستثماريّة في الصين والولايات المُتّحدة، أطلقت شركة مينغ تطبيقًا جديدًا تحت اسم «Douyin» في العام 2016. التطبيق الجديد كان عبارة عن منصّة لتبادل مقاطع الفيديو القصيرة التي تمنح المُستخدمين تجربة تفاعليّة غنيّة من خلال التحكم بمحتواها عبر «فلاتر» صوتيّة ومرئيّة متنوّعة وتأثيراتٍ سينيمائيّة مُسليّة. ما كان يُميّز التطبيق، بالرغم من ذلك، هو توظيفه لصانعي محتوى على درجة عالية من الإبداع، واعتماده بشكلٍ كبيرٍ على تغيير محتواه وتطويره تبعًا للتغذية الراجعة من قِبل المُستخدمين، ناهيك عن تنظيم الشركة لورشات تدريبيّة لإخراج مقاطع الفيديو في أوساط المراهقين والشباب. كسب مينغ المنافسة، وشهدت أعداد مُستخدمي التطبيق طفرة مذهلة خلال فترة قياسيّة. تُقدّر أعداد المستخدمين النشطين لـ «Douyin» في الصين بأكثر من 400 مليون شخص.

مثّل إطلاق «Douyin» ونجاحه الكبير في الصين القاعدة التي ارتكزت عليها شركة «ByteDance» للتوسّع العالميّ ولجذب المزيد من الاستثمارات. في العام 2017، أطلقت الشركة النسخة الدوليّة من «Douyin» تحت اسم «TikTok»، واستحوذت في العام ذاته على تطبيق «Musical.ly» الصينيّ، الذي كان يتمتّع بقاعدة مُستخدمين واسعة في الولايات المتحدة الأمريكيّة تربو على الـ 200 مليون شخص، وأدمجته في التطبيق العالميّ. عند تلك النقطة، أصبحت الآفاق أمام الشركة الناشئة التي أسّسها مينغ قبل بضعة سنواتٍ فقط أكبر من أي يومٍ مضى. ففي العام اللاحق، وفي جولة استثماريّة جديدة، وظّفت مجموعة «SoftBank» الماليّة العملاقة التي تُعدّ واحدة من أبرز أذرع الاستثمار في عالم اليوم، ما يزيد عن ثلاثة مليارات دولار في الشركة. هذا الدعم من قبل مجتمع الاستثمار العالميّ لشركة «ByteDance» وضعها في مكانٍ غير مسبوق تاريخيًّا لمشروع ناشئ. تُشير التقديرات أنّ الشركة تعدّ اليوم أغلى الشركات الناشئة (Start-up) في العالم، بقيمة تزيد عن 75 مليار دولار.

لكن، كيف تجني شركة «ByteDance» المال؟ تأتي غالبيّة عوائد الشركة في الوقت الحاليّ من خدمات التسويق الرقميّ التي تُقدّمها للشركات وماركات الأزياء والمشاهير، في السوق الصينيّ بشكلٍ خاص، ولمُستخدمي التطبيق الذين أصبح متاحًا لهم التسويق لمتاجرهم الخاصّة في الصين من خلاله. خلال العام الماضي، استطاعت الشركة أن تُنافس عملاقيّ الإنترنت الصينيّين » Tencent» و«Baidu» بقوّة على سوق الإعلانات الرقميّة، لتصبح ثاني أكبر مسوّق رقميّ هناك، مُستحوذة على 23% من السوق، بعوائد بلغت ستة مليارات دولار. وبالإضافة لذلك، أتاحت الشركة عبر تطبيقها الصينيّ الفرصة للمُستخدمين لشراء «هدايا افتراضيّة» لمنحها لمُنتجي المحتوى المُفضّلين لديهم، على أن تحصل الشركة على عمولة من هؤلاء المُنتجين لاحقًا من قيمة الهدايا التي تلقّوها. خلال العام الماضي، أنفق مستخدمو التطبيق الصينيّون ما يُقارب ثلاثة مليارات دولار على شراء هذه الهدايا الافتراضيّة (لم أستطع أن أمنع نفسي هنا من تشبيه هذه الهدايا بالعملات الورقيّة التي يتمّ شراؤها في «الكباريه» من أجل رشّها على المغنيين أو الراقصات كنوعٍ من الإطراء، مع فارق أن «الكباريه» هنا رقميٌ بالكامل ومسرحه هاتفٌ محمول).

يُدرك المدراء التنفيذيّون لشركة «ByteDance»، بالرغم من ذلك، أنّ نموذج العمل المتركّز على التسويق الرقميّ كمصدرٍ للأرباح يحمل في طيّاته الكثير من المخاطر في المدى الطويل، وأنّ استراتيجيّات التسويق التي تنجح في بلدٍ ما قد لا تنجح في بلدٍ آخر، بالنظر لتمايز الأذواق والخلفيّات الثقافيّة والعمريّة والاقتصاديّة لمُستخدمي التطبيق (أحد المآخذ على تطبيقات الشركة مثلًا هي أنّ نسبة كبيرة من مُستخدميها هم من المراهقين والأطفال الذين لا يمتلكون قوّة شرائيّة كبيرة أو اتصالًا بنظام مدفوعات رقميّ). هذه الحقائق، دفعت الشركة في العام الماضي إلى البدء بتنويع استراتيجيّتها من خلال تقديم تطبيقات جديدة في مجالاتٍ مُختلفة. فبالإضافة إلى الاستثمارات التي وجّهتها إلى تطوير تطبيقات الألعاب، حصلت الشركة على ترخيصٍ من شركة «Merlin» التي تمتلك حقوق ملايين من التسجيلات الغنائيّة للفرق المستقلّة تحديدًا من أجل تقديم خدمة البثّ الموسيقيّ لمُستخدمي «تيك توك» مقابل اشتراكٍ ماليّ دوريّ، وذلك في محاكاة لنموذجي «Spotify» و«Apple Music». وعلاوة على ذلك، فقد تقدّمت الشركة بطلبٍ للحصول على رخصّة لإقامة بنك رقميّ في إطار عطاءٍ طرحه البنك المركزيّ في سنغافورة مؤخّرًا. بهذا المعنى، يُراد لـ «تيك توك» أن يتحوّل إلى فقاعة لا يحصل الجالس فيها على خدمات التسلية فحسب، بل على خدمات التسوّق الإلكترونيّ ودفع الفواتير المنزليّة وتحويل الأموال أيضًا.

لكن، إلى أيّ مدى يُمكن لهذه الفُقّاعة أن تنتفخ؟ يُخبرنا تاريخ الشركات الناشئة (Start-ups) خلال العقد الماضي أنّ مسار الانهيار يُمكن أن يكون أسرع من مسار الصعود أحيانًا، وأنّ التقديرات بشأنّ القيمة السوقيّة لهذه الشركات قد يكون مُبالغًا فيه في الكثير من الأحيان من قِبل مُجتمع الاستثمار العالميّ. تُقدّم شركة «WeWork» مثالًا نموذجيًّا لهذه الحالة. فقد شغلت الشركة الأوساط الماليّة في «وول ستريت» خلال العامين الماضيين، واستطاعت أن تستقطب بعضًا من كبار الشركات العالميّة للاستثمار فيها (على رأسهم مجموعة «SoftBank»، المستثمر الرئيسيّ في «ByteDance«). طوال الوقت، كان يجري الترويج لـ «WeWork» كمشروعٍ واعد سيغيّر مفهومنا عن مكان العمل، وسيفتح الباب أمام أصحاب العقارات ومطوّريها حول العالم للاستفادة من أملاكهم على نحو أفضل وأكثر ربحيّة. عندما بدأت التحضيرات لطرح الشركة للاكتتاب العام، اكتشف المحاسبون أنّ حالتها الماليّة الحقيقيّة ليست كما كان يُشاع عنها، وأنّ شكوكًا كبيرةً تُحيط بآفاق نموّها في المستقبل، وأنّ مديرها التنفيذيّ، علاوة على ذلك، كان ينقل جزءًا من أرباحها إلى حسابه الشخصيّ بدون تدقيق محاسبيّ أو إداريّ. في بيئة «وول ستريت» التي تؤمن بالتقارير المُحاسبيّة أكثر من أيّ شيء آخر، كان من الطبيعيّ لثقة المستثمرين في الشركة أنّ تهتز تمامًا. في نهاية المطاف، أُلغي الطرح العام، واضطرت مجموعة «SoftBank» إلى التدخل بحزمة ماليّة لإنقاذ «WeWork» ومنعها من الإفلاس.

قد لا تواجه «ByteDance» السيناريو ذاته، ربما بالنظر لارتكازها إلى قاعدة استهلاكيّة متينة في السوق الصيني. لكن هذا لا يعني أنّ طريق نموّها مستقبلًا سيكون مفروشا بالورود. فالشركة تدخل إلى سوقٍ ناضجٍ مليء بالمنافسين الكبار الذين أصبح لهم باعٌ طويل في تطوير تطبيقات ومُنتجات «اقتصاد الإنترنت» المعولم. في السوق الصينيّ، ستواجه الشركة منافسة كبيرة من العملاقين «Alibaba» و«Tencent» اللذان يستحوذان على حصّة كبيرة من سوق الخدمات الرقميّة عبر طائفة من تطبيقات التسلية والتجارة الإلكترونيّة والتسويق والمدفوعات الرقميّة الشبيهة بالتطبيقات القائمة لدى «ByteDance» أو تلك التي تخطط لإطلاقها قريبًا (وعلى سبيل المثال، يعدّ تطبيق «WeChat» الذي طوّرته شركة «Tencent» برنامج التراسل الفوريّ الأول في الصين بمشتركين يُقدّرون بـ  1.15مليار مشترك). وعلى المستوى العالمي، سيكون على الشركة منافسة العمالقة الأمريكيين الذي يتحكمون بشبكات التواصل الاجتماعي والتسويق الرقميّ التجارة الإلكترونيّة مثل «Facebook» و«Google» و«Amazon». وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ العلاقة السياسيّة بين الصين والولايات المتحدة ستلقي بظلالها حتمًا على محاولات «ByteDance» لاختراق السوق الأمريكيّ وتحقيق أرباح كبيرة فيه، خاصّة في ضوء صعود المقاربة الأمنيّة في الولايات المتحدة للتعامل مع الشركات والاسثمارات الصينية، وتحديدًا تلك التي تعتمد على الشبكات الاجتماعيّة (وصل تأثير «تيك توك» إلى درجة استرعت انتباه وزارة الدفاع الأمريكيّة التي أصدرت في كانون الأوّل/ديسمبر من العام الماضي تنبيهًا إلى كافة العاملين فيها تحضّهم فيه على حذف التطبيق من أجهزتهم خشية تسرّب معلوماتهم الشخصيّة إلى الحكومة الصينيّة). وفوق ذلك كلّه، فإنّ آفاق نموّ الاقتصاد العالميّ في ضوء تبعات أزمة «كورونا» ستكون قاتمة في وجه الشركة بالنظر للتراجع المُحتّم الذي سيشهده العالم في الإنفاق الاستهلاكيّ والاستثمارات في المستقبل المنظور.

بالرغم من ذلك، فإنّ الصعود المدوّي لتطبيق «TikTok» يُلقي بحدّ ذاته الضوء على الملامح الفريدة لتحوّل الاقتصاد العالميّ والاقتصاد الصينيّ خصوصًا خلال العقد الأخير. أبرز هذه التحوّلات هي أنّ مفهوم الاستهلاك عند سكّان العالم شهد تبدّلاتٍ نوعيّة. إنسان القرن الواحد والعشرين لم يعد مهجوسًا باستهلاك الطعام فقط بوصفه الحاجة الأساسيّة لبقائه الحيويّ، وإنما باستهلاك «الداتا» أيضًا. نريد «الداتا» حتّى نستطيع مشاهدة اللاعبين والفنانين المُفضّلين لدينا وحتّى نستطيع مُتابعة الأفلام والمسلسلات التي نُحبّها، أي ببساطة، لنحصل على مقدارٍ من الترفيه والتسلية. أصبحت شركات الإنترنت و«السوشيال ميديا» تتمتّع، لهذا السبب، بموقعٍ شديد السطوة والتأثير في بنية الاقتصاد العالميّ اليوم، لأنّها غدت ببساطة، المزوّد الرئيسي لـ «طعام» عصر العولمة الرقميّة. بمعنى ما، أصبحت «الداتا» بترول العالم الرقميّ الحديث، مع انخراطٍ محمومٍ لشركات الإنترنت والتقنيّة في سباقٍ هائلٍ لتعظيم احتياطيّاتها منه. المفارقة هُنا هي أنّنا بإقبالنا على الشبكات الاجتماعيّة الحديثة أصبحنا المُنتجين الرئيسيين لهذا البترول، على أن تقوم أنظمة الذكاء الاصطناعيّ التي تطوّرها الشركات لاحقًا بالاستفادة منه لتنظيم وتوجيه احتياجاتنا منه وفي صورة منتجاتٍ وخدماتٍ رقميّة متنوّعة.

ومن جانبٍ آخر، يكشف صعود تطبيق «تيك توك» وغيره من التطبيقات الصينيّة الجديدة، المدى الذي قطعته التحوّلات الرأسماليّة في الصين خلال السنوات الأخيرة. تُمثّل شركة «ByteDance» التي أنتجت التطبيق نموذجًا مثاليًّا للجيل الجديد من الشركات الصينيّة العملاقة التي تُشكّل فيما بينها ناديًا احتكاريًّا للخدمات الرقميّة والتجارة الإلكترونيّة والتسويق في السوق الصينيّ، والتي وصلت قيمها السوقيّة إلى أرقامٍ مُذهلة، مع سعي دؤوبٍ لمدّ نفوذها التجاريّ إلى الأسواق العالميّة. نحن نتحدّث هنا عن ضربٍ من التراكم الرأسماليّ المتركّز بشدّة حول قطاع الخدمات الرقميّة على غرار المسار الذي شكّل عالم اقتصاد الخدمات خلال العقدين الماضيين على يد الشركات الأمريكيّة، وبمنتجاتٍ وخدماتٍ مُتشابهة إلى حدودٍ بعيدة. في هذا المشهد، ليست شركة «Alibaba» سوى المكافئ الصينيّ لـ «Amazon»، وليست شركة «Tencent» سوى المكافئ لـ «Facebook».

يُشير صعود هذه الشركات، من زاوية أخرى، إلى التنامي غير المسبوق في القوّة الشرائيّة للطبقة الوسطى الصينيّة التي بزغت إلى المسرح الاجتماعيّ كمجتمعٍ استهلاكيّ هائل نتيجة للتحوّلات الاقتصاديّة الجذريّة التي أفرزتها سياسة الانفتاح الاقتصاديّ التي تبنّتها قيادة الحزب الشيوعيّ الصينيّ في العام 1978، والتي أفضت إلى أكبر عمليّة انتقالٍ سكّاني من الريف إلى المدينة في التاريخ البشريّ. يحمل صعود هذه الطبقة رهاناتٍ متناقضة ومعقّدة. فهو من جانبٍ يسير في ذات الاتّجاه الذي تُشجّعه قيادة الحزب ضمن استراتيجيّة «الجديد العادي» الذي أطلقتها قبل سنوات، والهادفة إلى تحويل نموذج النموّ الصينيّ من الاعتماد على الصادرات للاعتماد على الطلب الاستهلاكيّ المحلّي وجعل هذا النموّ أكثر استدامة واستقرارًا. وبموازاة ذلك، فإنّ هذا الصعود يحمل في طيّاته تحديّات ازدياد حدّة الاستقطاب الطبقيّ وتعمّق التأثيرات الخارجيّة على فئاتٍ أوسع من المجتمع الصينيّ وتحديدًا فئة الشباب، ناهيك عن أن تبلور مصالح هذه الطبقة بمعزلٍ عن اقتصاد الدولة قد يقودها في النهاية إلى المطالبة بحقوق التمثيل السياسيّ في بلدٍ محكومٍ بحزبٍ واحد منذ العام 1949. وبمعنى آخر، فإن سعي الحزب إلى خلق السوق الصينيّ الاستهلاكيّ الكبير قد يصبح في نهاية المطاف «كعب أخيل» لاستقرار نظامه السياسي.

في الأيام القليلة الماضية، وفي حمأة موجة التبنؤات التي أغرت الكثيرين للحديث عن عالم ما بعد «كورونا»، تجرأتُ على التنبّؤ بأنّ ما سنشهده بعد انتهاء هذه الجائحة، قد يكون أقرب إلى «الحرب الباردة» بين الصين والولايات المتّحدة. لكنّني فرّقتُ بين هذه النسخة الجديدة من الحرب وتلك التي كانت سائدة خلال القرن الماضي بين الاتّحاد السوفييتيّ والولايات المتحدة. النسخة القديمة من الحرب الباردة كانت قائمة بين قوتين صناعيتين مرتكزتين على اقتصاديات وطنية بالدرجة الأولى ومغلقة نسبيّا (وتحديدًا في حالة الاتّحاد السوفييتي)، أما نسختها الجديدة فستكون بين قوّتين تتشاركان في الواقع سلاسل القيمة والإنتاج المعولمة، وترتبطتان بعلاقة اقتصاديّة تكافليّة وشديدة التعقيد بتريليونات الدولارات. بمعنى آخر، ستجري هذه الحرب في حلبة الاقتصاد الرأسماليّ المعولم والمندمج.

ردًّا على ما كتبتُ في حينه، وجه لي أحد الأصدقاء سؤالا يقول: ولكن أين «هوليود» الصينيّة؟ وأين المنتجات الثقافيّة التي يُمكن للصين أن تروّجها عالميّا لتتحول إلى أنماط شرائيّة لسلعٍ بعينها؟ أجبته حينها أنّ الصعود الصينيّ قد لا يرتبط بالمنتجات الثقافيّة بالدرجة الأولى، وأنّ الصراع بين القطبين العالميين، وبالنظر إلى كونه يجري في ظروف «الرأسماليّة الفائقة»، سيكون أقلّ تسييسًا من الناحية الأيديولوجيّة. وقد قدمتُ له «تيك توك» كنموذجٍ لطبيعة المُنتجات الصينية الجديدة التي تغزو العالم. خلال إعدادي لهذه القصّة الصحافيّة، لفتت انتباهي الإشارة المُتكرّرة إلى أنّ الكثيرين من مستخدمي التطبيق لا يعرفون أصلًا أنّه صينيّ وأن قصّته بدأت في بكّين (أنا شخصيًّا لم أعرف بهذا الأمر سوى قبل بضعة أيّام فقط).

هذه الإشارة جعلتني أعيد التفكير وطرح المزيد من الأسئلة: وما الذي تعنيه «هوليود» اليوم لجيل الـ «تيك توك» الذي ولد بغالبيّته في مطلع الألفيّة الجديدة؟ ألم يجعل تطوّر الاقتصاد الرقميّ الذي يعتمد على هاتف محمول واتّصال بالإنترنت وحسب، المنتجات الثقافيّة أقلّ التصاقًا بالهويّات القوميّة والوطنيّة أكثر من أيّ يومٍ مضى؟ ألا يُمكن لـ «تيك توك» أو لتطبيقات شبيهة أن تحلّ تدريجيًّا محلّ وسائل الإعلام التقليديّة وعلى رأسها التلفزيون الذي كان الركن المركزيّ لبروباغندا الدولة القوميّة وتشكيل الرأي العام خلال العقود الماضية؟ لقد نجحت شركات التقنيّة والإنترنت، لا في دمج العالم وجعله قرية صغيرة، بل في تجزيئه على نحو غير مسبوق بالاعتماد على أنظمة الذكاء الاصطناعي، حتى غدا كلّ واحدٍ منّا يعيش في خوارزميّته الخاصّة التي تعرف اختياراته في الموسيقى والسياسة والسينما والموضة، نجلس هنالك سعداء لنستهلك المزيد من «الداتا»، ولنعيش لحظة المرح اللحظيّ بفيديو قصير نتشاركه مع الأحبّة والأصدقاء، دون أن نفكّر في لون وجنسيّة الخوارزميّة، هذا إن كان لها جنسيّة أصلًا.

(Visited 24 times, 1 visits today)