نُشر في موقع "حبر" الإلكتروني في 26 آب/أغسطس 2020 بمناسبة مرور 67 على الانقلاب على حكومة الدكتور محمّد مُصدّق في إيران عام 1953. إضغط هنا لقراءة الجزء الأول.

ولد محمّد مُصدّق في طهران في نهايات القرن التاسع عشر لعائلة أرستقراطيّة خدم أعضاؤها طويلًا في مناصب رفيعة في البيروقراطيّة الإيرانيّة خلال عهد الأسرة القاجاريّة. فقد كان والده وزيرًا للماليّة وابن عمّ والده رئيسًا للوزراء، أمّا والدته فقد كانت ابنة عم ناصر الدين شاه، ملك فارس خلال طفولة مُصدّق. تفتّح وعي مصدّق على السياسة في سنّ مبكرة، فقد انتخب عضوًا في أوّل مجلس نيابيّ في البلاد في أعقاب الثورة الدستوريّة عام 1906، نائبًا عن مدينة أصفهان حين كان يبلغ من العمر 21 عامًا. انتسب مُصدّق لمدرسة العلوم السياسيّة في طهران قبل أن يُكمل دراساته في باريس، ثمّ في سويسرا حيث نال درجة الدكتوراه في القانون من جامعة نيوشاتيل عن أطروحته عن الوصيّة في الشريعة الإسلاميّة. عاد الدكتور، كما كان يُحبّ أن يُلقّب، إلى بلاده ليتقلّد مناصب رفيعة في الدولة، فعمل حاكمًا لمقاطعتي فارس وأذربيجان ووزيرًا للماليّة والخارجيّة. وخلال هذه الفترة، درّس في جامعة طهران ونشر بضعة كُتبٍ تُعالج مسائل على صلة بالإصلاح التشريعيّ والضريبي، وقد اكتسب شهرة على نطاقٍ واسعٍ كرجلٍ نزيه نظيف اليد وكمناهضٍ للهيمنة الأجنبيّة وكمثقفٍ دستوريّ لا يُشقّ له غُبار (1).

عندما انقلب رضا خان على حكم الأسرة القاجاريّة، كان الدكتور مُصدّق من موقعه كعضو في البرلمان، من أشد المعارضين للحكم الجديد، وقد كلّفته معارضته سنواتٍ في السجن والإقامة الجبريّة، قبل أن يُقرّر اعتكاف العمل السياسيّ ليُقيم في قريته بالقرب من طهران مُنشغلًا بالزراعة والقراءة (2).

عندما تنازل الشاه رضا عن العرش، استغلّ الدكتور مُصدّق الفرصة للعودة إلى الحياة السياسيّة. وقد انتُخب في العام 1944 عضوًا في البرلمان عن مدينة طهران. ومن هناك قاد حملته من أجل تأميم النفط في البلاد. كانت الاتّفاقيّة المُوقّعة في العام 1933 بين الحكومة والشركة البريطانيّة لا تمنح الحكومة من عوائد بيع النفط سوى الفتات، إلى حدّ أنّ قيمة الضرائب التي كانت تجبيها الحكومة البريطانيّة على أعمال الشركة في منتصف الأربعينيّات كانت تزيد على ثلاثة أضعاف المبلغ الذي دخل الخزينة الإيرانيّة في نفس الفترة، هذا دون أن تُؤخذ في الحسبان الأرباحُ التي كانت تتبقّى للشركة بعد خصم الضرائب، والتي كانت تتشارك مع إيران نسبة ضئيلة منها. كانت هذه القسمة المُجحفة، في تلك اللحظة التي شهدت تنامي المشاعر الوطنيّة، كافيةً بحدّ ذاتها لتأليب قطاعٍ واسعٍ من الجمهور المُسيّس وأعضاء الطبقة السياسيّة ورجال الحوزة الدينيّة، وخاصّة مع تصاعد الأنشطة العماليّة الاحتجاجيّة في مصفاة عبادان ضدّ ظروف العمل في مرافق الشركة والتمييز العنصريّ ضدّ العمّال الإيرانيين (3)

عامل في مصفاة عبادان للنفط التابعة للشركة «الأنجلو إيرانية»، عام 1945

 

حركة التأميم تثمر

 

تحت ضغط مُصدّق ونشاطيّته السياسيّة، أقرّ البرلمان الإيرانيّ قانونًا في أواخر العام 1944 يقضي بعدم منح الحكومة لأيّ امتيازات جديدة أو التفاوض على شروط الامتيازات القائمة دون أخذ موافقة البرلمان أولًا (4). وفي العام 1947، أقرّ البرلمان قانونًا آخر يفرضُ على الحكومة إعادة التفاوض على شروط اتّفاقيّة العام 1933 (5). وقد دخلت الحكومة الإيرانيّة بالفعل مفاوضاتٍ مع الشركة في نهاية الأربعينيّات مُطالبةً بزيادة نسبة الريع والأرباح المُتحصّلين من مبيعات النفط، وترقية المزيد من العمّال الإيرانيين إلى وظائف تقنيّة مُتقدّمة، وتخفيض أسعار المُشتقّات النفطيّة المُباعة في السوق المحلّي. وتوصّل الجانبان إلى ملحقٍ لاتّفاقيّة الامتياز في العام 1949، إلا أنّ البرلمان، الذي رأى أنّ الاتّفاقيّة الجديدة لا تُحقّق المصالح الإيرانيّة، رفض التصديق عليه.[6] وفي العام التالي بدأت تخرجُ إلى النور شروط الاتّفاقيّة التي وقّعتها شركة «أرامكو» الأمريكيّة مع الحكومة السعوديّة والتي نصّت على مبدأ 50/50 لتقاسم الأرباح بين الطرفين (وهو المبدأ الذي كانت الشركة البريطانيّة تبدي تعنّتًا إزاء القبول به حتّى ذلك الوقت) (7). وكان من شأن ذلك أن يضع المفاوضات بين الحكومة الإيرانيّة والشركة في حالة تجميد وأن يُعزّز موقف المُطالبين بالتأميم الكامل وعلى رأسهم الدكتور مُصدّق.

وفي قلب هذا الاضطراب الكبير الذي كان يعتملُ الساحة السياسيّة الإيرانيّة، اغتيل في مطلع العام 1951، رئيس الوزراء الإيرانيّ الجنرال علي رازماراه، والذي كان يرفض مبدأ التأميم الكامل خلال قيادته للمفاوضات مع الشركة، وذلك على يد مجموعة «فدائيي الإسلام» التي أسّسها مُجتبى مير لوحي (المعروف بِنوّاب صفوي). وكانت حادثة الاغتيال هذه كاشفة للمستوى الذي وصلته المعارضة الشعبيّة لامتياز الشركة البريطانيّة كتجسيدٍ للهيمنة الغربيّة على إيران ومقدّراتها الاقتصاديّة. خلِفَ رازماراه في منصبه رئيس الوزراء حسين علاء، أحد مستشاري الشاه، أملًا في احتواء الأزمة المُتصاعدة والتوصّل إلى تسوية تُطفيء نار الاحتقان الشديد في الشارع، لكنّ الرجل لم يصمد في موقعه أكثر من شهرين. لم يجد الشاه أمام هذا المشهد المُشتعل سوى القبول باختيار البرلمان للدكتور محمّد مُصدّق رئيسًا للوزراء، ليصوّت البرلمان في 15 آذار على  تأميم أصول الشركة «الإنجلوإيرانيّة»، فاتحًا الباب أمام فصول دراما جديدة ستعصف بإيران وتُحدّد ملامح مستقبلها السياسيّ لفترة طويلة من الزمن.

مثّل مشروع تأميم النفط الذي تبنّاه البرلمان الإيراني، ومنذ لحظته الأولى، تحدّيًا خطيرًا ومباشرًا لمصالح مُتداخلة وعلى أكثر من مستوى. فقد كان يُهدّد أولًا، المصالح البريطانيّة الحيويّة في المنطقة وعلى مستوى العالم على حدّ سواء. فمن جهة، كانت الشركة «الإنجلوإيرانيّة» تُزوّد بريطانيا وأسطولها الحربيّ بالوقود، حيث بلغ إنتاج الحقول الإيرانيّة في العام 1950، عشيّة قرار التأميم، قُرابة 32 مليون برميل، أي أقلّ بقليل من نصف إنتاج حقول النفط في منطقة الخليج مُجتمعة في نفس الفترة (8). وكانت الشركة تُمثّل أكبر استثمارٍ بريطانيّ خارج الحدود، خاصّة أنّها كانت تمتلك وتدير مصفاة عبادان، أكبر مصافي النفط في العالم في ذلك الوقت. ولذلك، فقد كان مشروع التأميم يعني عمليًّا حرمان بريطانيا من مصدر دخلٍ مُعتبر لخزينتها خلال فترة حرجة من إعادة الإعمار والتسلّح في أعقاب الحرب العالميّة الثانية.

ومن جهة ثانية، كانت السيطرة الإيرانيّة على أصول الشركة، تُمثّل ضربة لأحد أعمدة النفوذ البريطانيّ في منطقة الشرق الأوسط، والذي كان تقويضه بهذه الطريقة يعني تعريض هيبة القوّة البريطانيّة للخطر وتشجيع حركاتٍ جديدة في أماكن أخرى في العالم على المسّ بها بجرأة أكبر. وقد كان هذا التخوّف بالذات حاضرًا بشدّة أمام الجنرالات البريطانيين، الذين تداعوا بعد أيّامٍ قليلة من قرار التأميم لوضع سيناريوهات الخطط العسكريّة الرامية لاستعادة منطقة عبادان، إمّا باجتياحها برًا من العراق أو التسلّل إليها بالزوارق السريعة من مياه الخليج. ولربما كانت الصدمة التي أحدثها قرار التأميم في المؤسسة البريطانيّة، واحدة من الحوافز الرئيسيّة وراء الردّ العنيف على تأميم قناة السويس في العام 1956 في مصر، مع عودة تيار الصقور بروحه الحربيّة إلى قيادة حزب المُحافظين البريطانيّ.

وعلاوة على ذلك، جسّد مشروع التأميم خطرًا على النظام الاحتكاريّ الذي تحكّم «كارتيل» النفط الدوليّ من خلاله بإمدادات النفط في سوق الطاقة العالميّة آنذاك (9). وقد كانت الشركة «الإنجلوإيرانيّة» التي فوجئت بخطوة التأميم، على استعدادٍ للتوصّل لاتّفاقيّة جديدة مع الحكومة الإيرانيّة تقوم على مبدأ 50/50 لتقاسم الأرباح، والذي كان قد بدأ بالانتشار في بعض البلدان النفطيّة. إلا أنّها لم تكن مستعدّة للتنازل للحكومة عن سيطرتها الكاملة على عمليّة إنتاج وتكرير وتسويق النفط، لأنّ هذه السيطرة كانت تُمثّل في الواقع حجر الأساس في قدرة «كارتيل» النفط على فرض التسعيرة التي تُناسبه، من خلال التحكّم بالكميّات المعروضة من الخام الأسود في السوق. وقد نُظر إلى خطوة التأميم في أوساط شركات «الكارتيل» كإشارة سلبيّة للغاية، خشية أن تتحوّل إلى مثالٍ تحتذيه بلدان أخرى بطريقة تُهدّد مصالح الشركات النفطيّة واستقرار السوق العالميّ (10)

رئيس الوزراء الإيراني الأسبق محمد مصدّق، 1951

تضافرت هذه العوامل مُجتمعة لتدفع بالشركة «الإنجلوإيرانيّة» ومن ورائها الحكومة البريطانيّة بالطبع، لشنّ حربٍ اقتصاديّة على طهران. وبحلول خريف العام 1951، سحبت الشركة كافّة فنييها ومهندسيها من المرافق النفطيّة (11). وتعاونت مع شركات «الكارتيل» النفطيّ من أجل منع الصادرات النفطيّة الإيرانيّة من الوصول إلى الأسواق العالميّة (وقد كان «الكارتيل» يُهيمن على ما يزيد على 75% من ناقلات النفط في ذلك الوقت) (12)، مُعلنةً أنّها ستُقاضي أي شركة تقوم بشراء النفط الإيرانيّ الذي اعتبرته ملكها الخاص. وعلاوةً على ذلك، بذلت الحكومة البريطانيّة جهودًا دبلوماسيّةً مُثمرةً ضغطت من خلالها على الدول الصناعيّة لمنعها من إرسال تقنيين لمساعدة إيران على تشغيل آبار الإنتاج وخطوط الأنابيب من جديد، وأرسلت فرقاطاتها العسكريّة إلى مياه الخليج مُحكمة طوقها على إيران (13). وقد هدفت هذه الإجراءات إلى إجبار حكومة مُصدّق على الرضوخ والتراجع عن قرار التأميم تحت طائلة انهيار الوضع الاقتصاديّ للبلاد.

لم تكتفِ بريطانيا بهذه التدابير الاقتصاديّة، بل ذهبت إلى حدود مناقشة الخطط العسكريّة الأنسب للسيطرة على المنطقة النفطيّة في عبادان ومحيطها وإخضاع الحكومة الإيرانيّة لشروط الشركة بالقوّة. وحين وجدتْ أنّ العمل العسكريّ غير واقعي وقد تكون له عواقب وخيمة، فقد لجأت إلى كلّ ما في جعبتها من وسائل دبلوماسيّة واستخباريّة وإعلاميّة من أجل الإطاحة بحكومة مُصدّق. ونظرًا لنفوذها القديم في بلاد فارس، فقد استطاعت بريطانيا بناء شبكة واسعة من المُتعاونين في أوساط القصر الملكيّ والجيش والبيروقراطيّة والأحزاب السياسيّة ومجتمع التجار والصحافة، ناهيك عن رجال طبقة الأعيان الذين ارتبطوا بها تاريخيًّا بعلاقاتٍ مميّزة وكان بعضهم على استعدادٍ لتقديم خدماته العملياتيّة والاستشاريّة بدون مقابل طالما أنّ الأمر سيقود في النهاية إلى تخليصهم من مُصدّق.

وبرز في إطار هذه الجهود، بشكلٍ خاص، الأخوة رشيديان (أسد الله، قدرة الله، وسيف الله) أبناء رجل الأعمال الثريّ حبيب الله رشيديان، الذي ورّث أبناءه علاقته الممتازة مع الأجهزة البريطانيّة. وقد نجح الأخوة الثلاث بتوجيهات جهاز الخدمة السريّة البريطانيّ (SIS) وتمويله، من إطلاق حملة تحريضٍ واسعة النطاق على حكومة مُصدّق في الصحافة الإيرانيّة، من خلال رشوة العشرات من الصحفيين الإيرانيين بل وافتتاح صحفٍ جديدة لهذا الغرض بالذات (14). كما تمكّنوا أيضًا من شراء خدماتٍ مثيري الشغب في البازار لمساعدتهم في تنظيم احتجاجاتٍ صاخبة ضدّ الحكومة، بالإضافة إلى بعض رجال الدين الذين طُلب منهم التحريض على مُصدّق من منابر المساجد. لكنّ الاختراق الأهم الذي حقّقه الأخوة الثلاثة تمثّل في تقديمهم راتبًا شهريًّا لعشراتٍ من أعضاء المجلس النيابيّ لدفعهم لحجب الثقة عن حكومة مُصدّق ومعارضة سياساتها والتشويش على عملها، أملًا في إسقاطها في النهاية من خلال القنوات الدستوريّة (15). وقد كانت أنشطة رشيديان مع أعضاء المجلس مفضوحة إلى حدّ إدانتها من مصدّق شخصيًّا والذي انتهى به الأمر بالرد عليها عبر طرد أعضاء البعثة الدبلوماسيّة البريطانيّة في طهران في خريف العام 1952.

أمّا الولايات المُتّحدة فكانت نظرتها إلى العالم في ذلك الوقت محكومة بالدرجة الأولى للتصدّي للاتّحاد السوفييتيّ والعمل على منع نفوذه من الانتشار عالميًّا، خاصّة بعد وصول الشيوعيين إلى السلطة في الصين عام 1949، واندلاع الحرب الكوريّة في العام التالي. وقد تنامتْ أهميّة إيران ضمن هذه النظرة كحائط صدّ جغرافيّ وسياسيّ يحول دون وصول الاتّحاد السوفييتي إلى منابع النفط في الخليج في أعقاب أزمة أذربيجان 1945- 1946، عندما أقام انفصاليّون مدعومون من موسكو، لفترة قصيرة، جمهوريتين اشتراكيتين تتمتّعان بالحكم الذاتي في مهاباد وتبريز.

إذًا، كان الهاجس الأمريكيّ متركّزًا بدرجة رئيسيّة على الحيلولة دون سقوط إيران في مدار النفوذ السوفييتي من خلال تأثير حزب «توده» إذا ما سقط مصدّق. ولذلك، كانت إدارة ترومان ترى في الرجل قوّةً موازنةً للحزب، خاصة أنه كان يتبنّى أصلًا نظرةً حذرةً تجاه «توده» والاتّحاد السوفييتي ضمن سياسته في «الحياد السلبيّ» إزاء القوى الكبرى. وعلى هذا الأساس، فقد سعت إدارة ترومان إلى الإبقاء على خطوط التواصل معه ومنعت بريطانيا من تنفيذ خططها التي كانت ترمي إلى تنفيذ عملٍ عسكريّ ضدّ طهران. وهي، وإن كانت قد دعمت تدابير بريطانيا المُتعلّقة بحظر تصدير النفط، إلا أنّها عملت على التوسّط بين الطرفين من أجل إنهاء الأزمة بطريقة دبلوماسيّة وبما يحقّق لها أهدافها في إطار استراتيجيّتها في الحرب الباردة.

 

انتفاضة تمّوز 1952

 

على المستوى الداخليّ، كان جدول أعمال حكومة مُصدّق بعد قرار التأميم مليئًا بالمهمّات الصعبة. فقد كان عليها خوض المعركة القانونيّة التي أشعلتها بريطانيا ضدّ إيران في محكمة العدل الدوليّة في لاهاي سعيًا للحصول على حكمٍ يُجرّم التأميم (16). وكان عليها، علاوة على ذلك، العمل من أجل إيجاد الوسائل التي تُتيح لها التفلّت من الحظر النفطيّ الذي فرضته بريطانيا على صادرات النفط، حتّى لو اضطرها الأمر لعرضه للبيع بخصومات كبيرة، (وهي لم تنجح في هذا المسعى كثيرًا بكلّ الأحوال). وبموازاة ذلك، كانت الحكومة مشغولة بتنفيذ سياساتٍ اقتصاديّة جديدة من أجل احتواء الأزمة الماليّة التي خلّفها فقدان خزينتها لأهمّ مصدرٍ من مصادر العملة الصعبة وللاستمرار في دفع رواتب الآلاف من عمّال المرافق النفطيّة في عبادان. وقد تبنّت الحكومة في هذا الصدد سياساتٍ تقضي برفع الرسوم الجمركيّة على واردات السلع الكماليّة، وحفّزتْ تصدير المنتجات الزراعيّة والصناعيّة، وأصدرت سنداتٍ لتمويل الخزينة الحكوميّة. وقد كان لهذه السياسات أثرٌ مهمٌ في تقليل الضغوط الهائلة على الاقتصاد الوطنيّ وتجنّب انتفاضات الخبز ومعالجة الاختلال الهائل في الميزان التجاريّ الموروث من الاعتماد على اقتصاد الريع النفطيّ.

وكان مُصدّق، بالإضافة لذلك، يخوض معركة مُهمّة مع القصر الملكيّ على صلاحيّاته الدستوريّة كرئيسٍ للوزراء. ففي تموز 1952، طالب مُصدّق الشاه بمنحه صلاحيّة السيطرة على الجيش كوزيرٍ للحربيّة، لكن الشاه رفض هذا المطلب، فما كان من مصدق سوى الاستقالة من منصبه احتجاجًا. وقد تنفّس رجال القصر الملكيّ ومن ورائهم بريطانيا الصعداء، فقد وفّر عليهم مُصدّق، كما ظنّوا للوهلة الأولى، مشقّة إسقاطه. لكن الرياح لم تجر بما اشتهته سفنهم، إذ سرعان ما اندلعت انتفاضة شعبيّة عارمة في طهران دعمًا لمصدّق، الذي عاد مُظفّرًا بعد بضعة أيّامٍ إلى منصبه، الذي احتلّه لأيام قليلة أحمد قوام، بصلاحيّاتٍ أوسع من تلك التي امتلكها في السابق، بما فيها صلاحيّة السيطرة على الجيش. كان شعار مصدّق بأنّ «الشاه يملك ولا يحكم» يتحقّق في تلك اللحظة على أرض الواقع بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى.

مصدّق محمولًا على الأكتاف في طهران في أعقاب قرار التأميم، أيلول/سبتمبر 1951

يمكن القول أنّ انتفاضة تموز 1952 كانت نقطة مفصليّة في مسار الأزمة الإيرانيّة. فقد أثبتت لبريطانيا وللمتعاونين معها من رجال القصر والأعيان أنّ شعبيّة الدكتور مُصدّق المُنبثقة من الإرادة الوطنيّة الحرّة المُناهضة للهيمنة الغربيّة كانت أكبر من أن تهزّها المكائد والمؤامرات وتدابير الحصار الاقتصاديّ، وأنّ الروح الكفاحيّة التي أبداها الإيرانيون بتمسّكهم بحقّهم في تأميم النفط، تجعل من احتماليّة إيجاد بديلٍ لمصدّق بالطرق الدستوريّة في تلك اللحظة المُلتهبة ضربًا من المستحيل.

أمّا الأمريكيّون الذين كانوا يرون في مُصدّق قوّة موازنة لحزب «توده» وللنفوذ السوفييتي، فقد بدأت نظريّتهم هذه بالتغيّر بعد الانتفاضة. فبالنسبة لهم، كان العجز عن التوصّل إلى تسوية بخصوص أزمة التأميم وهيمنة احتجاجات الشارع على السياسة الإيرانيّة، بما ينطوي عليه ذلك من فقدان الحكومة لسيطرتها على الوضع، يعني تمهيد الأرضيّة لحزب «توده» للاستحواذ على السلطة وتحقّق أسوأ مخاوفهم في نهاية المطاف. وإذا كانت إدارة ترومان قد توصّلت إلى هذا الاستنتاج متأخّرة وعوّلت على الحلول الدبلوماسيّة منذ بداية الأزمة، فإنّ الإدارة الجمهوريّة بقيادة دوايت آيزنهاور، الذي فاز بالانتخابات في تشرين الثاني من ذلك العام، رأت أنّ الأزمة بحاجة إلى مُقاربة أكثر حزمًا، مُنتقدة إدارة ترومان على تلكّؤها وعلى سياستها الانتظاريّة التي تُهدّد بتحويل إيران إلى «صينٍ جديدة».

وقد تسببت الانتفاضة، علاوةً على ذلك، بأول الصدوع في تحالف «الجبهة الوطنيّة» الذي قاد الحملة من أجل تأميم النفط. فقد بدأت بعض أقطاب الجبهة، مدفوعةً بالحسابات قصيرة النظر والمصالح الشخصيّة الضيّقة وتحت تأثير الاختراق البريطانيّ للطبقة السياسيّة، بالابتعاد عن مُصدّق تدريجيًّا وتوجيه انتقاداتٍ حادّة له على خلفيّة السلطات الواسعة التي حصل عليها، مُتّهمةً إياه بالتأسيس لنظامٍ دكتاتوريّ. وكان آية الله أبو القاسم كاشاني الداعم الأبرز لمصدّق في حملته للتأميم من أهمّ أقطاب الجبهة الذين ابتعدوا عن رئيس الوزراء وبدأوا التعاون مع معسكر مناوئيه من رجال القصر (17).

 

«TP-AJAX»: خطة انقلاب

 

هكذا، ففي نهاية العام 1952، كانت سُحب الانقلاب على الدكتور محمّد مُصدّق قد بدأت بالتجمّع في سماء طهران. في تشرين الثاني من ذلك العام، زار وفدٌ من جهاز الخدمة السريّة البريطانيّ يقفُ على رأسه كريستوفر وودهاوس، مدير محطّة الجهاز في طهران، الولايات المُتّحدة للقاء مسؤولي الاستخبارات هناك، مُقترحًا عليهم تنفيذ عمليّة مشتركة للانقلاب على حكومة مُصدّق، وقد وعد المسؤولون الأمريكيّون بدراستها. أخذت الخطّة زخمها الفعليّ في شتاء عام 1953، بعد انتقال مقاليد السلطة إلى إدارة آيزنهاور التي كانت تهدف إلى إسقاط مُصدّق بأي طريقة، وفي آذار حصلت وكالة الاستخبارات المركزيّة (CIA) على الضوء الأخضر لتخطيط وتنفيذ الانقلاب (18). اختير «TP-AJAX» رمزًا للعملية (19)، وكُلّف دونالد ويلبر، الأكاديميّ المتخصّص في تاريخ العمارة المشرقيّة وخبير الحرب النفسيّة في الـ«CIA» الذي سبق له الخدمة في إيران، بوضع الخطّة العملياتيّة للانقلاب، وكُلّف كيرميت روزفلت، مسؤول عمليّات الوكالة في الشرق الأدنى، بقيادتها على الأرض (20).

في نيقوسيا ولندن وواشنطن وبيروت، كان ضبّاط جهاز الخدمة السريّة ووكالة الاستخبارات المركزيّة يعملون بدأب منذ ربيع العام 1953 من أجل وضع تفاصيل خطّة الانقلاب بما يشمل استعراض شبكات المُتعاونين الإيرانيين التي ستُسهم فيها ومناقشة أسماء المُرشّحين المُحتملين لخلافة مُصدّق واختيار الطريقة الأنسب لمقاربة الشاه لإقناعه بالعمليّة.

وبحلول الصيف، كانت الخطوط العريضة والتفاصيل العملياتيّة للخطّة قد اكتملت. قضت الخطّة ببدء الانقلاب عبر خطواتٍ مُتسلسلة تبدأ بحملة بروباغندا واسعة النطاق ضدّ حكومة مُصدّق، على أن يتبع ذلك تنظيم الجنرال فضل الله زاهدي (الذي وقع عليه الاختيار ليكون خليفة مُصدّق) لشبكة من الضبّاط في المواقع المُهمّة في الجيش بهدف السيطرة على المواقع الحسّاسة في العاصمة، ثمّ إقناع الشاه بإصدار فرمان بتعيين زاهدي قائدًا للجيش ودعوة القوّات المسلحة للانصياع لأوامره. وقد تضمّنتْ الخطّة في مراحلها النهائيّة قيام أعضاء المجلس النيابيّ الذين اشتراهم وسيشتريهم الأخوة رشيديان بالتصويت على حجب الثقة عن مُصدّق وصولًا إلى تنظيم مظاهراتٍ كبيرة في يوم الانقلاب تنطلق من البازار بقيادة رجال الدين إلى مقرّ المجلس النيابي لتعتصم فيه مُندّدة بمصدّق كعدوٍ للإسلام. وقد شدّدت الخطّة على أنّه وفي حال الفشل في إسقاط مُصدّق من خلال التصويت في المجلس النيابيّ، فإنّ الجنرال زاهدي سيُبادر للسيطرة على السلطة بالقوّة بموافقة الشاه أو بدونها (21).

بدأت العمليّة كما خُطّط لها بحملة تحريضٍ شعواء ضدّ حكومة مُصدّق بالاعتماد على شبكة الصحفيين الذين جنّدتهم الأجهزة الأمريكيّة والبريطانيّة (22). وقد تزامنت هذه المرحلة مع عمليّات تخريبٍ استُخدم فيها اسم حزب «توده» لتنظيم مظاهراتٍ عدوانيّة استهدفت المساجد والمحلات التجاريّة ولإرسال طرودٍ مُفخّخة لبيوت رجال الدين وتخويفهم من ثورة شيوعيّة قادمة في البلاد.

متظاهرون مساندون للملكية في شوارع طهران في 26 آب/أغسطس 1953، عقب إحراقهم صحيفة حكومية

أمّا الجنرال زاهدي، فقد بدأ دوره في الخطّة بمحاولة التواصل مع ضبّاط الجيش المُناوئين لمُصدّق والمستعدّين للمشاركة في الانقلاب لكنّه لم يلقَ الكثير من النجاح بالنظر أوّلًا لكفاءته المحدودة في هذا المضمار، وثانيًا للتأييد الكبير الذي كان يتمتّع به مُصدّق في أوساط قادة الجيش، وتحديدًا في الألوية المُتمركزة حول طهران (وكان الرجل قد قام بعمليّة تطهيرٍ كبيرة في الجيش في أعقاب انتفاضة تمّوز 1952)، وهو الأمر الذي اضطرّ وكالة الاستخبارات المركزيّة لأخذ زمام المبادرة منه وتجنيد شبكة من الضبّاط بمساعدة المُلحق العسكريّ في سفارة إيران في واشنطن.

وقد واجهت خطوّة إقناع الشاه بالانقلاب هي الأخرى بعض العقبات. فقد عُرف عن الشاه أنّه كان صاحب شخصيّة انطوائيّة مُتردّدة ومهجوسة بقلقٍ وجوديّ عميق. ولم يكن الشاه مُتحمّسًا للعمليّة ولا لرؤية فضل الله زاهدي رئيسًا للوزراء، كما لم يكن واثقًا من ولاء الجيش له. وقد اضطرّ جهاز الخدمة السريّة البريطانيّ لرشوة أخته التوأم الأميرة أشرف، صاحبة الشخصيّة القويّة، للذهاب إلى طهران لإقناعه، لكنّه ظلّ مُتمنّعًا عن توقيع الفرمان الذي كان عليه توقيعه. وقد زار الشاه في قصره لاحقًا كلٌ من أسد الله رشيديان والجنرال نورمان شوارزكوف (والد قائد قوّات التحالف الدولي في عمليّة «عاصفة الصحراء» عام 1991) الذي جاء خصّيصًا من واشنطن بغرض إقناع الشاه بتجهيز الفرمان وتوقيعه ولكن دون جدوى. في النهاية زار كيرميت روزفلت الشاه وحذّره من أنّ الولايات المُتّحدة سوف تتصرّف من تلقاء نفسها ودون الحاجة لموافقتها، ما دفعه إلى الرضوخ وتوقيع الفرمان في نهاية المطاف (23).

لم تكتنف عمليّة «TP-AJAX» بعض الثغرات العملياتيّة منذ البداية فحسب، بل إنّ الضجّة التي رافقت تنفيذ بعض مراحلها قوّضت جدار السريّة الذي كان ينبغي أن تُحاط به كعمليّة استخباريّة على درجة عالية من الخطورة. وقد استُقبلت زيارة الأميرة أشرف التي سبق لمصدّق إجبارها على مغادرة البلاد، ثمّ زيارة الجنرال شوارزكوف بشكلٍ خاص، بمقدارٍ كبيرٍ من الارتياب لدى رئيس الوزراء وأنصاره الذين نظروا إليها كجزءٍ من مؤامرة مُشينة وقد بدأت تفوح في طهران رائحة المراحل التنفيذية الأخيرة من عمليّة الانقلاب، بما فيها الجهود الحثيثة التي كان يبذلها الأخوة رشيديان لشراء أعضاء المجلس النيابيّ، الذين وقعت على كاهلهم مهمّة إسقاط مصدّق من خلال حجب الثقة عن حكومته.

عند هذا المفصل، وإدراكًا منه للنقطة الحرجة التي وصلها الموقف، أعلن مُصدّق عن استفتاءٍ شعبيّ لحلّ المجلس النيابيّ في أوائل آب، في مفاجأة غير متوقّعة للخطّة الأمريكيّة البريطانيّة التي كانت تقضي بالاعتماد على تصويت حجب الثقة في المجلس لإسقاطه في ظلّ المظاهرات العارمة، ليبدو المشهد كما لو كان انتفاضة شعبيّة ضدّ رئيس الوزراء. وكان على مدبّري الانقلاب أن يُعدّلوا خطّتهم على عجل من خلال الاعتماد على صلاحيّات الشاه الدستوريّة بدلًا من المجلس، ليوقع الشاه، الذي كان يقيم آنذاك في منتجعه الصيفي في رامسار على بحر قزوين (وكان إبعاد الشاه عن العاصمة طهران جزءًا من خطّة الانقلاب)، على فرمانين يقضي أولهما بعزل مصدّق، فيما يقضي الآخر بتعيين الجنرال فضل الله زاهدي بدلًا منه (24).

لقد مثلت الأحداث التي تلت عزلَ الشاه لمصدق أخطر الفصول في تاريخ إيران الحديث. إذ توجه الجنرال نعمة الله نصيري، قائد الحرس الإمبراطوريّ، على رأس مجموعة من الضبّاط والجنود، لتسليم مُصدّق فرمان عزله في ليلة السادس عشر من آب 1953. لكنّ رئيس الوزراء الذي كانت قد تسرّبتْ له تفاصيل خطّة الانقلاب أمر حراسه بإلقاء القبض على الجنرال نصيري، وكلّف الجيش بشنّ حملة لاعتقال الانقلابيين.

بدى أنّ عمليّة «TP-AJAX» قد انهارت تمامًا في تلك اللحظة. فقد رفض الضبّاط الذين جنّدتهم الـ«CIA» التحرّك ضدّ وحدات الجيش المؤيّدة لمصدّق، واختفى الجنرال زاهدي ومساعدوه عن الأنظار. أمّا الشاه، فقد استقلّ الطائرة إلى بغداد التي مكث فيها لبعض الوقت قبل أن يُغادرها إلى روما. وفي مقر الـ«CIA» في لانغلي، سادت أجواء الإحباط واليأس، وأُصدرت الأوامر من هناك لكيرميت روزفلت بضرورة الانسحاب الفوريّ وإنهاء العمليّة (25).

لكن روزفلت كان له رأيٌ آخر. فقد ارتجل على عجل بمساعدة زاهدي والأخوة رشيديان وأعضاء آخرين في شبكة المتعاونين مع الـ«CIA» في طهران خطّة جديدة من أجل عكس الموقف لصالح الانقلابيين مُجدّدًا. فأعطى أوامره لحشد مظاهراتٍ من مثيري الشغب على أنّها مظاهرات لحزب «توده»، وهي المظاهرات التي اخترقت شوارع طهران في اليوم التالي لتقوم بأعمال تخريب من خلال تكسير تماثيل الشاه ومهاجمة المحال التجاريّة ونهبها واستهداف المساجد والتحريض على رجال الدين بغية إشاعة أجواء من الفوضى والخوف. وبموازاة ذلك، سعى روزفلت إلى طباعة فرمانات الشاه وتوزيعها على نطاق واسع في طهران وتعميمها على الصحافة المحليّة والعالميّة لخلق الانطباع أنّ مصدّق هو الذي يقود الانقلاب على التاج الملكيّ برفضه الانصياع للقواعد الدستوريّة وأنّ النظام السياسيّ الإيرانيّ برمّته أصبح مُهدّدًا بالانهيار لصالح جمهوريّة اشتراكيّة.

كما قامت البعثة العسكريّة الأمريكيّة في تلك الأثناء بمحاولة حشد الجيش وراء الحكم الملكيّ من خلال توزيع المساعدات والأغذية والمولدات الكهربائيّة على القطعات العسكريّة المُحيطة بطهران. وفي الثامن عشر من آب، التقى السفير الأمريكيّ لوي هندرسون القادم من واشنطن بمصدّق وحذّره من مغبّة استمرار الفوضى في الشارع تحت طائلة سحب أعضاء البعثة الدبلوماسيّة الأمريكيّة والمستشارين الاقتصاديّين والعسكريّين من البلاد، فأصدر مصدّق أوامره لقوّات الشرطة لفضّ التظاهرات بما فيها تظاهرات أعضاء حزب «توده» الحقيقيين الذين اتّخذت قيادتهم قرارًا بسحبهم من الشارع على الفور (26).

لكنّ أعمال الفوضى المدبّرة من قبل «CIA» لم تتوقّف. فقد التحقت وحدات الجيش المناوئة لمصدّق في يوم التاسع عشر من آب بالغوغاء في الشوارع لتُسيطر على المراكز الحسّاسة في العاصمة، وصولًا إلى بيت مُصدّق الذي دارت على مشارفه معركة دامية استمرّت بضع ساعات قبل أن يتمّ اقتحامه والسيطرة عليه ونهبه. وعند ساعة العصر، أعلن الجنرال فضل الله زاهدي عبر إذاعة طهران أنّه رئيس الوزراء الشرعيّ. أمّا مصدّق، فقد استسلم في اليوم التالي لقوّات زاهدي، قبل أن يُقدّم لاحقًا إلى مُحاكمة قضت بحبسه ثلاث سنوات قبل أن يُطلق سراحه ليقضي حكمًا بالإقامة الجبريّة في منزله بقرية أحمد أباد حتّى وفاته في العام 1967 (27).

مصدّق يتحدث أثناء محاكمته في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 1953 أمام المحكمة العسكرية في طهران

(1) هوما كاتوزيان، «مصدّق والصراع على السلطة في إيران»، بيروت، جداول للنشر والترجمة والتوزيع، ترجمة      الطيّب الحصني، ص 25-46.

(2) هوما كاتوزيان، مصدر سبق ذكره، ص 46 -72.

(3) كانت السياسة العمّاليّة لشركات النفط الغربيّة في تلك الفترة قائمة على التمييز العنصريّ بشكلٍ فج. ولم يقتصر الأمر على التمييز في مستويات الأجور بين العمّال المحليين والعمال الأجانب وحسب، بل طال أيًضا الطريقة التي صُمّم فيها الحيّز المكاني لمدن النفط، حيث صُمّمت المجمعات السكنيّة التي يقطنها المهندسون والعمال والمدراء الغربيّون بطريقة تجعل منها فضاءاتٍ معزولة تتوافر على كلّ سبل الراحة والترفيه، وتمثّل في نفس الوقت «أرضًا حرامًا» على أهل البلاد الأصليين، بحيث لا تسري عليهم امتيازاتها بأي حال من الأحوال. ولعلّ مجمّع الظهران الذي بنته شركة «أرامكو» في السعوديّة يمثّل التجسيد الصارخ لهذا النوع من السياسات، إذ استلهم قوانين «جيم كرو» العنصريّة التي كانت قائمة في الجنوب الأمريكي خلال القرن التاسع عشر بالكامل.

(4) John W. Limbert, «Negotiating with Iran: Wrestling the Ghosts of History«, United States Institute of Peace Press, 2009, p. 38

(5) Marsh, S. (2001). HMG, AIOC and the Anglo‐Iranian oil crisis: In defence of Anglo‐Iranian Diplomacy & Statecraft, 12(4), 143–174

(6) Ghods, M. R. (1993). The rise and fall of general Razmara. Middle Eastern Studies, 29(1), 22–35

(7) جاء انتشار صيغة 50/50 في تقاسم الأرباح بين الشركات والحكومات آنذاك نتيجة لتصاعد النضالات العماليّة في مواقع إنتاج النفط عبر العالم وبروز أفكار التأميم ومكافحة الاستعمار في عقد الأربعينيّات والخمسينيّات وظهور النخب المحليّة التي أخذت على عاتقها تحسين شروط الامتيازات النفطيّة لصالح الحكومات الوطنيّة والتصدّي لعسف الشركات النفطيّة وعنجهيّتها. ولقد لعب أعضاءٌ من هذه النخبة الجديدة مثل الشيخ عبد الله الطريقي من السعوديّة وخوان بابلو بيريز من فنزويلا، اللذين سيصبحان وزيرين للنفط في بلديهما لاحقًا، دورًا أساسيًّا في تأسيس منظمة «أوبك» في العام 1960 كنادٍ سياسيّ يجمع الدول المُصدّرة للبترول في مواجهة احتكار الشركات النفطيّة الكبرى للسوق العالميّ.

(8) The persian settlement. (1954). The Round Table, The Commonwealth Journal of International Affairs, 44(176), 326–335

(9) كان كارتيل «الأخوات السبع» تسيطرن على أكثر من 80% من إمدادات النفط في السوق العالميّ منذ منتصف الأربعينيّات تقريًبا. والاسم الذي صكّه رجل الأعمال الإيطاليّ إنريكو ماتي هو كناية عن تحالف سبع شركات نفط عملاقة هي: «إنجلو-إيرانيان»، «شل»، «ستاندار أويل أوف كاليفورنيا»، ستاندارد أويل أوف نيوجيرسي»، «ستاندارد أويل أوف نيويورك»، تكساكو» و«غولف أويل». وكان هذا «الكارتيل» يتحكّم بأسعار النفط في الأسواق العالميّة من خلال التعاون بين شركاته التي كانت عمليّاتها في إنتاج وتكرير وتسويق النفط مُندمجة إلى حدّ بعيد.

(10) على هذه الخلفيّة يجب فهم السياسة التي كانت تتبناها الشركات النفطيّة الكبرى آنذاك بما فيها الشركة «الإنجلوإيرانيّة» والتي كانت تقضي بحصر العمّال الإيرانيين في وظائف تتطلّب نوعًا من المهام المُكرّرة والتي لا تسمح للعامل باكتساب مهاراتٍ جديدة أو الترقّي في السلم الوظيفي بناءً على الخبرة. فقد تصرفت الشركات آنذاك بمنطق «سأعطيك السمكة لكنني لن أدعك تتعلّم الصيد»، لأنّ تأهيل التقنيين والعمّال الإيرانيين للقيام بمهام متقدّمة كان يعني قدرتهم مع الوقت على تشغيل مرافق الصناعة بدون الحاجة للمدراء والمهندسين الإنجليز وهو الأمر الذي كان يناقض فلسفة «الكارتيل» في السيطرة على عمليّات الإنتاج. وقد كان مطلب ترقية العمّال إلى وظائف تقنيّة وتدريبهم وتأهيلهم جزءًا من مطالب الحكومات في مفاوضاتها مع الشركات الأجنبيّة في كلّ مكانٍ في العالم وليس في إيران فحسب.

(11) Mary Ann Heiss, «The International Boycott of Iranian Oil and the Anti-Mosaddeq Coup of 1953» in Mohammad Mosaddeq and the 1953 Coup in Iran, New York, Syracuse University Press, 2004, p. 180

(12) Mary Ann Heiss, ibid, p. 183

(13) Mary Ann Heiss, ibid, p. 182

(14) Fakhreddin Azimi, «Unseating Mosaddeq: The Configuration and Role of Domestic Forces» in Mohammad Mosaddeq and the 1953 Coup in Iran, New York, Syracuse University Press, 2004, p. 43

(15) Roger Louis, «Britain and the Overthrow of Mosaddeq«, in Mohammad Mosaddeq and the 1953 Coup in Iran, New York, Syracuse University Press, 2004, pp. 140-141

(16) Homa Katouzian, «Mosaddeq’s Government in Iranian History» in Mohammad Mosaddeq and the 1953 Coup in Iran, New York, Syracuse University Press, 2004, p. 7

(17) كان السيّد أبو القاسم كاشاني مناضلًا إيرانيًّا معروفًا، قاتل ضدّ البريطانيّين أثناء الاحتلال البريطانيّ السوفييتي لإيران في العام 1941 وتعرّض للنفي من البلاد. اعتنق كاشاني منذ تفتّح وعيه السياسيّ أفكارًا مناهضة للإمبرياليّة، ولذلك فقد انخرط بحماسة في الحركة الشعبيّة لتأميم النفط، وكان قطبًا بارزًا في الجبهة الوطنيّة وأبرز مؤيدي مصدّق. بدأ اختلافه مع مصدّق في أعقاب انتفاضة تموز/يوليو 1952، واتّخذت معارضته منذ مطلع العام 1953 شكلًا أكثر صراحة وعنفًا ضدّ رئيس الوزراء. وقد كان كاشاني من أشدّ المناوئين للاستفتاء الشعبيّ الذي دعا إليه مصدّق لحلّ البرلمان معتبرًا المشاركة فيه محرّمة شرعًا. لا تتوافر أدلّة قاطعة على تعاون كاشاني بشكلٍ مباشر مع الأجهزة الأمريكيّة والبريطانيّة في الانقلاب على مصدّق، لكنّ المؤكّد أنّه كان واحدًا من السياسيّين المحوريين في التحريض على الحكومة وفي تنسيق جهود الانقلابيين ضدّها.

(18) Mark J. Gasiorowski, «The 1953 Coup d’État Against Mosaddeq» in Mohammad Mosaddeq and the 1953 Coup in Iran, New York, Syracuse University Press, 2004, p. 227-233

(19) أشار الكاتب مارك غاسيروسكي الذي عمل لسنين طويلة على استقصاء تاريخ العمليّات السريّة لجهاز الاستخبارات المركزيّة في إيران وعلى عمليّة الانقلاب على محمّد مصدّق بالذات، أنّ الجزء الأول من اسم العمليّة «TP» يشير إلى الأحرف الأولى من اسم حزب توده (Tudeh Party)، أما الجزء الثاني «AJAX» فقد كان يُشير إلى اسم منظّف منزلي شهير في الولايات المتحدة. بهذا المعنى، فقد كان اسم العمليّة يعني فعليّا «تنظيف إيران من حزب توده». بهذا المعنى فقد كان اسم العمليّة يعكس بشكل ما الطريقة التي كانت تنظرُ فيها الأجهزة الأمريكيّة لملفّ إيران آنذاك ضمن استراتيجيّتها الأكبر خلال الحرب الباردة.

(20) Roger Louis, ibid, p. 168

(21) Mark J. Gasiorowski, ibid, pp. 233-237

(22) Mark J. Gasiorowski, ibid, pp. 242-246

(23) Mark J. Gasiorowski, ibid, pp. 247-248

(24) Mark J. Gasiorowski, ibid, pp. 248-249

(25) Mark J. Gasiorowski, ibid, pp. 248-250

(26) Mark J. Gasiorowski, ibid, pp. 251-257

(27) Mark J. Gasiorowski, ibid

(Visited 56 times, 1 visits today)