نُشرت في مُلحق "السفير العربي" في 27 آب/أغسطس 2014

ينهال طنٌ من المتفجرات من الجو على بيتٍ هنا أو حيّ هناك، فينبعث من لهيبه الحارق شيطان هائل من الرماد ليبتلع المدينة بأسرها... رمادٌ يبتلع رماد. غزّة رماديّة، وهذا أمرٌ لا علاقة له بالذوق أو بالحسّ الجمالي الكئيب، بل إنّه مرتبطٌ على نحوٍ لا ينفصم بسرديّة المكان الاجتماعيّة، وبشكلٍ خاص، بعلاقة أهله الغريبة والمُرتبكة مع «الاسمنت». يكفي أن تعتلي مكانا عاليا مُشرفا على المدينة، لتكتشف أنّ هذا الحيّز قد تشكّل مدفوعا برغبة غامضة في البقاء الأبدي، وأنّ هذه الرغبة تحايلتْ على كلّ ما أمكنها من العوائق الالهيّة والدنيويّة لتُوجد، وأنّها من فرط أصالتها كسرت بضراوة كثيرا من قواعد الهندسة والعمران.

في مواجهة الخسارات المُدوية التي طالت الفلسطينيّين في غزّة، والتي قوّضت أيّ إمكانيّة لعيشٍ هادئ ومُستقرٍ وخالٍ من المُنغصات، أصبح الاستثمار في الاسمنت حائط الصد الأخير للمدينة التي تُدير ظهرها للأبيض المتوسّط وتُريد أن تتحدّى كلّ شيء لتستمر. كلّ أولئك العمّال الذين أجبرتهم ظروف عيشهم البائسة على العمل في إسرائيل، وأولئك الذين اغتربوا في المنافي البعيدة للعمل، كلّ المُوظفين والأطبّاء والفلاحين والحرفيّين والمعلّمين كانوا يكدّون وفي قلوبهم نداء مُتحمّس: نريد أن نبني منزلا. في وعي هؤلاء، البيت هو رأس المال الذي لا يكتمل ولا يجب أن يكتمل. تُشيّد البيوت على أمل أن يُضاف لها المزيد والمزيد من الغرف والطوابق في المُستقبل.

وفي غزّة وحدها ربما، حين يُقرّر الناس أن يبنوا منزلا فإنّهم يصبّون في قواعده الأساسيّة كميّة من الاسمنت تكفي لتعمير بضعة منازل في مدن الشرق المجاورة. البيت في غزّة لا يُبنى كمكانٍ للعيش فقط، وإنّما كإمكانيّة.. إمكانيّة واعدة لأن تطال أسطحه الغيوم يوما ما. ولأنّ غزّة هي المدينة التي تعيش تحت الخفر الدائم لصفارة الإنذار ودويّ سيارات الإسعاف وشؤم الأخبار عن إغلاق المعابر، ولأنّها، رغم شغفها بالاسمنت، لا تصنعه، فقد بُنيت ليلبس عمرانها رداء حالة الطوارئ الدائمة. حين تسير في شوارعها تستطيع أن ترى منازلا بطوابق غير مُكتملة وشبابيك بلا زجاج، وأخرى أضيفت لها غرف ومساحات للعيش شيّدت كيفما اتّفقْ، أجزاءٌ منها مطليّة بالأبيض فيما أجزاؤها الأخرى رماديّة، وعليّات باهتة ومتروكة تنتظر تحسّن الحال لتزدان بالقرميد الأحمر.

إنّها مدينة تتمدّد بناءً على احتمال الأمل المُنتظر دوما. وإسرائيل التي صمّمتْ دوائرها الأمنيّة مُعادلة رياضيّة للتحكّم بحجم المواد الأوليّة والأغذية المسموح دخولها لغزّة، تُلقي بأطنان مُتفجّراتها على هذا الاحتمال لتوئده مع أصحابه. وفي كلّ مرّة، ينهض الاحتمال من تحت الركام، من تحت الاسمنت، أشدّ عودا وصلابة. تقول امرأة من الشجاعيّة تقف على ما تبقى من منزلها: «حنضل صامدين. بدهم يطلعونا بنرجع، وبنبني، وحنبني تاني وحنعمّر تاني وحنضل قاعدين». سنظّل قاعدين يا أمّي، وسنفكّر على الدوام باحتمال جديد: مثلما هرّبنا الاسمنت لنُشيّد الأنفاق التي قطعتْ الحدود مُبشّرة بإمكانيّة الانتصار، سنبني مصنعا للاسمنت، وسنوسّع غابتنا الوارفة لتغطّي كلّ فلسطين، وسنكسوها بألوانٍ زاهية لننسى اللون الرمادي للأبد.

(Visited 17 times, 1 visits today)