بنهاية القرن الثامن عشر، كان نفوذ شركة الهند الشرقيّة التجاريّ قد غطّى مساحة جغرافيّة تمتدّ من خليج فارس والبحر الأحمر إلى بحر الصين الجنوبيّ، ومن سواحل الشرق الإفريقي إلى شبه الجزيرة الماليزيّة. كانت الشركة التي تمتّعت بمقدارٍ كبير من الاستقلاليّة عن المركز الإمبرياليّ في لندن تُدير عمليّاتها التجاريّة من خلال نظام "الوكالة"، وذلك من خلال تعيين ممثّلين لها في المحطات التجاريّة المختلفة تتمثّل مهمّتهم في عقد الصفقات مع التجار المحليّين لشراء السلع التي ستحملها سفن الشركة العائدة إلى أوروبا. كانت تجارة بلاد فارس والمنطقة العربيّة تُدار من خلال وكيل الشركة في البصرة جنوبيّ العراق، وفي نهاية القرن انتقل مركز ثقل الوكالة إلى مدينة بوشهر في فارس، والتي أصبحت مُذّاك المُتحكّم الفعليّ في شئون منطقة الخليج على المستوى التجاريّ والسياسيّ.
لم تكن تجارة الخليج في تلك الحقبة تُمثّل سوى جزءٍ ضئيلٍ من مُجمل تجارات الشركة عبر القارات، ولم يكن يُنظر إلى المنطقة من قبل الإمبراطوريّة البريطانيّة، حتى ذلك الوقت، كمنطقة ذات أهميّة خاصّة. إلا أنّ هذا المشهد تغيّر كليّا في أعقاب حملة نابليون على مصر في العام 1798. فقد نظر مسئولو مستعمرات الهند إلى توسّع نابليون بعين الريبة والتخوّف. وقد جرى عن عمد تضخيم الخطر النابليونيّ من خلال الادّعاء بأنّ الجنرال الفرنسيّ سيقوم عبر تحالفٍ مع شاه فارس وسلطان مسقط، وبالاعتماد على المستعمرات الفرنسيّة في المحيط الهندي، بغزو شبه القارة الهنديّة. عند هذا المفترق، أصبح يُنظر إلى منطقة الخليج كركنٍ حيويّ في استراتيجيّة شركة الهند لحماية خطوط التجارة البحريّة، وبرزت الحاجة إلى تحويل الخليج إلى منطقة عازلة بين البحر الأحمر والعمق الهنديّ.
اعتمدت الإمبراطوريّة البريطانيّة في الهند على مزيجٍ من السياسات لـ "خلق" منطقة الخليج كفضاء جغرافيّ واستراتيجيّ مُحدد وذو أهميّة خاصة ضمن الاستراتيجيّة البريطانيّة. على المستوى الأيدلوجي، جرى بناء خطابٍ استعماريّ متكامل يقوم على تصوير المنطقة كمرتعٍ للمشاغبين ومثيري القلاقل والقراصنة الذين يعطّلون حريّة الملاحة في الخليج (اُستخدم مصطلح "ساحل القراصنة" في الوثائق البريطانيّة لوصف المنطقة التي تمثّل اليوم أراضي دولة الإمارات المتحدة). وقد اُستخدم هذا الخطاب لاحقا لتبرير العمل العسكريّ العنيف ضدّ هؤلاء المشاغبين. فقامت السفن التابعة لشركة الهند في مناسبتين اثنتين في العام 1809 و1819 بقصف إمارة رأس الخيمة وتدمير أسطولها.
ضَمِنَ استخدام القوّة العسكريّة الغاشمة ضدّ إمارة رأس الخيمة للإمبراطوريّة البريطانيّة حقّ احتكار العنف في المنطقة، إلا أنّه لم يكن كافيا بذاته لتحقيق الهدف المنشود بخلق المنطقة العازلة. ومن هنا، فقد سعى البريطانيّون إلى وضع ترتيبات متكاملة في الخليج تقوم على قاعدة ماديّة اقتصاديّة عمادها صيد وتجارة اللؤلؤ الذي كان أهل تلك المناطق يعملون بها آنذاك. في مطلع العام 1820 وقع مشايخ رأس الخيمة ودبي وأبو ظبي والشارقة والرمس اتفاقيّات تمهيديّة مع الإمبراطوريّة البريطانيّة تنصّ على تسليم المشايخ لسفنهم للإمبراطوريّة باستثناء تلك التي تستخدم في صيد الأسماك واللؤلؤ، ثم جرى تطوير هذه الاتفاقيات في ذات العام إلى معاهدة سلام عامّة بين الطرفين تنصّ على امتناع العرب عن أعمال النهب والقرصنة برّا وبحرا وإلى الأبد. كما وضعت هذه الاتفاقية أول نظامٍ حديث للملاحة في المنطقة لأنّها نصّت على قيام السفن العربيّة برفع علمٍ مميّز وضرورة حمل هذه السفن لسجل يحوي معلوماتٍ تفصيليّة عن اسم السفينة وطاقمها ومواصفاتها الفنيّة والميناء الذي أبحرت منه والميناء الذي ستُبحر إليه.
إلا أنّ معضلة جديدة طفت على السطح في ضوء هذه التطوّرات. فالنزاعات بين القبائل العربيّة في الساحل الخليجيّ سرعان ما انتقلت من اليابسة إلى البحر في صورة صراع على مكامن اللؤلؤ بين السفن المختلفة. ومرّة أخرى، تدخلت الإمبراطوريّة البريطانيّة لتفرض على المشايخ العرب توقيع اتفاقيّة الهدنة البحريّة في العام 1835، وقد كان من اللافت أنّ الاتفاقيّة نصّت على توقّف الأعمال العدائيّة في الفترة ما بين 21 مايو/أيار و21 نوفمبر/تشرين ثاني من كلّ عام وهي الفترة التي تمثّل موسم صيد اللؤلؤ في الخليج. وتمثلت المهمة الرئيسيّة للوكيل البريطاني في بوشهر مذّاك في زيارة المنطقة كل عام للحصول على موافقة المشايخ العرب على تجديد اتفاقية الهدنة البحريّة. في العام 1843 جرى تمديد العمل باتفاقية الهدنة لعشرة أعوام إضافية، قبل أن تُوقّع في العام 1853 اتفاقية تجعل من الهدنة إطارا دائما في كلّ أوقات العام وليس في موسم صيد اللؤلؤ فحسب، ومن هنا جاءت تسمية "إمارات الساحل المتصالح" الذي ظلّ الاسم الرسميّ للمنطقة حتى أواسط القرن العشرين. وقد كان لإطار الهدنة البحرية هذا أن يكون المقدمة لتوقيع ما يعرف بـ "المعاهدات المانعة" عام 1892 والتي تعهد من خلالها شيوخ الساحل المتصالح بعدم الدخول في اتفاقيات أو إجراء اتصالات مع أية قوة أو دولة أخرى عدا الحكومة البريطانية مقابل تعهد بريطانيا بحماية الإمارات من أي عدوان خارجي.
أفضت الترتيبات التي أرستها الإمبراطوريّة البريطانيّة في المنطقة إلى ازدهار تجارة اللؤلؤ. وقد تعزّز هذا الاتّجاه بالعقابيل الاجتماعيّة الهائلة التي تمخّضت عن الثورة الصناعيّة في المراكز الأوروبيّة، مُتجسّدة بصعود الطبقة البرجوازيّة التي سعت إلى اقتناء الأحجار الكريمة والمجوهرات كجزء من نمط استهلاكها الباذخ والتفاخريّ. وبحلول النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كانت منطقة الخليج تنتج ما يزيد عن 80% من اللؤلؤ الطبيعيّ الذي تستهلكه الأسواق الأوروبيّة. وفي مطلع القرن العشرين، كانت حمى الحصول على اللؤلؤ لدى البرجوازيين الأوروبيين قد دفعت بعضا من أهمّ بيوت المجوهرات الراقية في باريس ولندن وبرلين إلى افتتاح فروعٍ لها في المنطقة أملا في الحصول على اللؤلؤ من صياديه مباشرة وبدون الحاجة إلى وسطاء.
لكنّ هذه الذروة التي وصلتها تجارة اللؤلؤ في الخليج سرعان ما بدأت بالأفول في العقد الثاني من القرن العشرين على وقع أزمة الكساد العالميّ الكبير الذي أطاح بالطلب الأوروبيّ على هذه السلعة الثمينة، ثمّ بصعود اليابان كمركزٍ احتكاريّ لللؤلؤ الصناعي الذي غزى مذّاك أسواق العالم بأسعار تنافسية. وجاء بزوغ الصناعة النفطيّة في المنطقة في منتصف الثلاثينيّات ليدقّ المسمار الأخير في نعش هذه التجارة وليجعل من المراكب الشراعية أثرا على زمن مضى. في مذكراته الشخصيّة التي كتبها تحت عنوان "من البادية إلى عالم النفط"، يلقي وزير النفط السعوديّ المخضرم علي النعيمي الضوء على هذا التحول الذي انتقل من خلاله الخليج إلى حقبة حداثية جديدة. لقد ورث أحفاد رجال اللؤلؤ الصناعة النفطيّة البازغة، واستبدل الحجر الكريم ببرميل النفط، وحلت الولايات المتحدة محلّ بريطانيا .. ترى ماذا سيرث أحفاد رجال النفط بعد مائة عام من الآن؟